للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هناك توترًا معينًا بين بعض القيم التي نَصبو إليها ونَوَدُّ أن نحققها جميعًا، بحيث إن الترتيبات الاجتماعية التي تدعم إحداها من شأنها بالضرورة أن تنال من الأخرى: ثمة توترٌ بين «العدل» و «الكفاية الاقتصادية»، وتوترٌ بين «المساواة» (في الحال) و «الحرية»! ويبقى أن نختارَ القيمة الأكثر أهمية للمجتمع والأَوْلَى من ثم بالتحقيق. (١)

تقوم الفكرةُ الديمقراطية على أن الناسَ سواسيةٌ قانونيًّا وسياسيًّا، صحيح أنهم خُلِقوا غير سواسية في المواهب الطبيعية، إلا أن هذا التفاوت ليس حجةً على المساواة وإنما هو حجة لها، فالمساواة أمام القانون ليست حقيقةً موضوعية ولا قانونًا طبيعيًّا، إنما هي مطلبٌ سياسي قائمٌ على قرارٍ أخلاقي، ولا علاقة لها البتة بالنظرية القائلة بأن الناس وُلِدوا سواسيةً بالطبيعة، بل إن المساواة «في الفرصة» هي التي تضمن وترعى التفاوت العقلي بين بني البشر؛ لأن مساواة الفرصة تضمن للمواهب الفردية حق التميز والنمو، وتحمي أصحاب المواهب من أن ينالهم اضطهادٌ ممن يقلون عنهم موهبة.

في رواية «ثيسيوس» لأندريه جيد يقول ثيسيوس بعد أن أسْهَب في تبيين طريقته في فرض المساواة: «وقد استمع بيريتوس لهذه الخطبة التي ألقيتُها على السادة، فقال لي إنها خطبةٌ رائعة، ولكنها سخيفة، وكان يعلل ذلك بأن المساواة بين الناس ليست طبيعيةً بل ليست شيئًا يُبتغَى، فمن العدل أن يتفوق الأخيار على طغام الناس بما تُخوِّلهم الفضيلة من امتياز، وهؤلاء الطغام إذا لم تُثر بينهم التنافسَ والتزاحم والغيرة ظلوا هامدين خامدين أشبه شيء بالماء الراكد الآسن، فليس لهم بدٌّ من حافز إلى العمل … وسواء أردتَ أم لم تُرِد فإن هذه التسوية الأولى التي تطمح إليها وهي تكفل للناس جميعًا تكافؤ الفرص ليسعوا إلى الحياة من مستوًى واحد، ستنتهي قطعًا إلى اختلاف والتفاوت، فتنشأ طبقات تتأثر بما يتمايز الأفرادُ به من الكفاية وحسن البلاء، ستنشأ طبقةُ العامة الشقية والأرستقراطية السعيدة.»

وفي كتابه الكلاسيكي «نظرية في العدل» a theory of justice يطرح جون رول John Rawl (١٩٢١ - … ) نظريةً ربما تكون أهم نظريات العقد الاجتماعي المعاصرة


(١) يقول كارل بوبر: «لو أن هناك شيئًا من قبيل الاشتراكية المقترنة بالحرية الفردية لَوَدِدت أن أكون اشتراكيًّا، فليس أجمل من أن يعيش المرء حياةً متواضعة بسيطة في مجتمع مساواة، غير أني أنفقت زمنًا قبل أن أدرك أن هذا لا يعدو أن يكون حلمًا جميلًا، وأن الحرية أهم من المساواة، وأن محاولة تحقيق المساواة من شأنها أن تهدد الحرية، وأن الحرية إذا فُقِدت فلن يتمتع فاقدوها حتى بالمساواة.»

<<  <   >  >>