للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكثيرًا ما يُستغل هذا الميل الفطري لدى البشر لخلق تعاطفٍ مع المتهم وصرف الانتباه عن جريمته النكراء بتبيان أن المتضرِّر نفسه يرتكبها، ذلك منطقُ الاستحلال والاستباحة، وهو منطق مغلوط؛ لأنَّ قُصارَى ما يمكن أن يبرهن عليه هو أن الطرفين كليهما على خطأ.

لا شك أنَّ العدالة تقتضي المعاملة بالمثل، غير أنَّ هذا المبدأ نفسه لا يجعل من الخطأ صوابًا، وإلا اختلطت الأمور واغتُفِرت الجرائم وبُرِّئَ المجرمون، بل كوفِئوا، بالنظر إلى أن الآخرين قد ارتكبوا في حقهم نفس الظلم.

تتغذى العداواتُ والضغائن، بين الأفراد وبين الشعوب، على هذه المغالطة العتيدة، وعليها تقوم جريمة الثأر وتجد تبريرًا وجيهًا، فمظالم الماضي تظل حيةً صارخةً تُفسد على الناس حاضرهم وتهدِّد مستقبلَهم، إنما الدولة هي مَنْ يتولَّى تصويب أخطاء الأفراد، والمجتمع الدولي هو مَنْ ينبغي عليه أن يتولى تقويم زيغ الشعوب؛ حتى لا نقنع بدفع الظلم بالظلم وتصويب الخطأ بالخطأ.

(٤ - ٢) خطآن يصنعان صوابًا Two wrongs make a right

تُعَد مغالطة «أنتَ أيضًا» فرعًا من مغالطةٍ أعمَّ هي «الإشارة إلى خط آخر» pointing to another wrong أو «خطآن يصنعان صوابًا»، حيث يُستبدَل بضمير المخاطب second person ضمير الغائب third person، في هذه المغالطة الأعم يتذَرَّع المغالِطُ بأن هناك من يصنع الشيء نفسه، أو يُنوِّه بأن الخطأ الذي يرتكبه إنما هو حقيقة قائمة في طرف آخر من أطراف الأرض وأمرٌ واقع في بقعةٍ أخرى من بقع العالم.

ليشتدَّ التعذيب في سجوننا، فإن التعذيبَ لَشديدٌ في سجونٍ أخرى من العالم.

لماذا كلُّ هذا الجزع من الفساد في بلادنا، إن الفساد لينخر في أرقى بلاد العالم.

لقد وقع ظلمٌ من قبل على البولنديين في وارسو، ينبغي إذن أن يقع ظلمٌ مماثل على الألمان في برسلو.

وقد تتمادى المغالطة في الشطط والغلو حتى تأخذ المُفترَض المقَدَّر مأخذ الواقع الحاصل! وتتخذ صيغة «هو أيضًا كان جديرًا أن يفعل ذلك لو استطاع»، أو «هم أيضًا كانوا سيفعلون نفس فعلتنا لو وضعوا موضِعنا» … إلخ.

<<  <   >  >>