أن كشف المغالطة وتسميتها وتحليلها من شأنه أن يُقصِي الحجة الباطلة من ساحة الجدل إقصاءً نهائيًّا ولا يكتفي بإضعافها أو تحجيمها، ذلك أن الخصوم المتمرسين بالجدل والمِراء لديهم من الخبرة والمهارة ما يُمكِّنهم من إنعاش حجتهم الجريحة وإعادة تجنيدها في حلبة الصراع.
[(٤) فن التعامل مع المغالطات]
غير أنَّ النَّاس - الخصم الفكري أو السياسي، والقضاة، وجمهور الحاضرين - ليسوا جميعًا مناطقةً ملِمِّين بفقهِ المغالطات وسُبُل كشفِها وإقصائها؛ ومن ثم فإن عليك أن تتقن فن التعامل مع المغالطات وكشفها وإقصائها؛ حتى لا تفشلَ حملتُك وتأتي بعكس المرجو منها وتجعلك غرَضًا للتهكم والسخرية، عليك باختصار أن تجعل ردَّك جزءًا من مساق الحديث، غير ناشزٍ أو مُستغرَب، عليك أن تُسمِّي المغالطة باسمها، بالعربية واللاتينية إن استطعت، وأن تُبادر بتبيان ما تعنيه المغالطة، ولماذا هي مغالطة، وأن تفعل ذلك بليونةٍ وخِفَّةٍ وإيجاز، دون أن تعلوك سيماءُ التعالم والتكلف والحذلقة، عليك أن تَذْكُر اسمَ المغالطة وفحواها كما لو كنت تُعِيد على مسامع القاضي الذكي شيئًا بسيطًا يعرفه من الأصل، ثم تُثنِّي بمثالٍ بالغِ الوضوح يَزِيد مقصدَك جلاءً وسطوعًا، ثم تختم حجتَك وكأنك تداوي خصمَك وتفتح له طريقًا آخر للجدل غير مغالطته البائدة، قل شيئًا كهذا:
«إن توجُّهك يا سيدي يتكئُ بشدةٍ على التأييد الشعبي وعلى فوزه الساحق في الاستفتاء الأخير، لقد صَوَّت أغلبُ الناس لهذا التوجه، نعم وهذا حقُّهم في بلدٍ ديمقراطي يتولى فيه الشعبُ حكمَ نفسه وعلى مسئوليته، غير أنه لا يجعل من الرأي السائد حقًّا بالضرورة، إنه خطأ .. «الاحتكام إلى عامة الناس» ad populum كما تعلمون إن عدد الأصوات المؤيِّدة ليس معيارًا للحق ولا يجعل الرأي حقًّا بالضرورة، فالحق والباطل لهما معاييرُ أخرى تعرفونها، لقد قفز هتلر إلى السلطة من صناديق الاقتراع، وقاد ألمانيا إلى الهاوية بتأييدٍ شعبي عارم، لقد حَظِي الرِّقُّ يومًا ما بتأييد الأغلبية في بعض الولايات الأمريكية، لقد كانت الأرضُ ذاتَ يومٍ هي مركز الكون في اعتقاد الجميع عدا جاليليو، دعنا إذن من هذه الحجة المغالطة، ولننصرف الآن عن التفكير بصندوق الاقتراع إلى التفكير بالعقل، يبقى أن حجتَك الأكثر وجاهةً وسدادًا هي … »