للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجدال لا لإثرائه، وقد بلغ شخص أرسطو من الجلال والهيبة بحيث صار يعرف ب Ille Philosophus (الفيلسوف، بألف لام التعريف)، وصار الاستشهاد بقوله يعرف ب ipse dixit (هو، نفسُه، قال … )

يقع المرء في مغالطة «الاحتكام إلى سُلْطة» ad verecundiam عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنما تكمن المغالطةُ في اعتبارِ السلطة بديلًا عن البيِّنة، أو اتخاذها بينةً من دون البينة!

لا بأس على الإطلاق في الاحتكام إلى سلطة، وإننا لنحتكم بالفعل إلى سلطة الخبراء في كلِّ مجال كلَّما أعوزتنا الخبرة أو المعرفة الكافية في ذلك المجال، فالمعرفة تخصصٌ، والخبراء هم الأشخاص الذين نذروا عمرهم في دراسة مجالٍ بعينه والتمرس به حتى حصَّلوا فيه معرفةً تجعلهم أبصر بأصوله وفروعه وأقربَ صلةً بالحقيقة في شئونه وشجونه، ومِن ثَمَّ فإن لنا كل الحق في أن نستفتيهم ونسألهم الرأي والمشورة في مجالهم لأن لدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن رأيهم في ذلك أقوم من رأينا وخبرتَهم أصدقُ من خبرتنا، فإذا ألمَّ بالمرء مرضٌ لا خبرة له به فإنه يلجأ إلى الطبيب المختص ويأخذ بمشورته ويتبع إرشاداته، وإذا استعصى عليه خلل بجهاز الحاسوب فإنه يلجأ إلى خبيرٍ بالحواسيب ليُصلح له الخلل، وهكذا الحياة وبخاصة في العصر الحديث: تخصصاتٌ وأفرعٌ موكلٌ بها خبراءُ متخصصون نثق برأيهم ونأتمر بأمرهم ونحتكم إلى سلطتهم، ليس في الأمر هنا حجبٌ للدليل أو استهانة بالبينة، بل توجُّهٌ إليهما والتماسٌ لهما (في مظانِّهما)! فما جعل الخبيرَ خبيرًا في نظرنا إلا ثقتنا بأن عنده الدليلَ ولديه البيِّنة.

على أن الأمور على صعيد الواقع لا تسير دائمًا هذا السير الهَيِّن ولا تسلك دائمًا هذا الجَدَد الآمن، يبدأ التعثر والوقوع في الاحتكام المغالط إلى السلطة في الأحوال التالية:

[(١) إذا كان الاحتكام إلى السلطة غير ضروري]

ذلك أن كثيرًا من الأمور تخضع للملاحظة المباشرة أو الحساب المحض، هنالك يلتقي المرءُ التقاءً مباشرًا بالبينة ويكون الالتجاء إلى السلطة لطلب البينة هو عبث لا معنى له وكسل يستوجب اللوم، إنه أشبه بالتيمم وقد حضر الوضوء! ذلك أن الملاحظة المباشرة أعلى يقينًا من السلطة وتجُبُّ أيَّ سلطة، هكذا كانت ثورة «النهضة» ضد سلطة أرسطو وسلطة الكتاب المقدس، تلك الثورة التي أعقبت تطورًا علميًّا حقيقيًّا لم تشهد البشرية مثلَه في العصور السوالف، لقد كان رأي أرسطو في العصور الوسطى يؤخذ مأخذ

<<  <   >  >>