عدم وجود أدلة تُفنِّد الادعاء، وهي مغالطة لأن مكارثي ينطلق في حجته من مقدمةٍ تفيد غياب المعرفة (أي تفيد الجهل) إلى نتيجةٍ إيجابية تفيد أنه بذلك قد «عرف»، أو «أثبت»، أن الشخص المعْنِيَّ مُدانٌ بالميول الشيوعية، إن التهمة التي يوجهها مكارثي هي تهمة خطيرة يتحتم أن تحمل عبءَ البينة وألا تُلصَقَ بشخصٍ لمجرد أنه لا يملك أدلةً تدحضها.
هَبْ أن واحدًا من ضحايا مكارثي أذعن للموقف الاتهامي وشرع يثبت براءته من الميول الشيوعية بشتى الوسائل، فجعل يفرد لنا جدوله اليومي، والجماعات التي يلتقي بها في تعاملاته المهنية، والأنشطة التي ينخرط فيها في إجازته الأسبوعية، والأماكن التي يتواجد بها في حِلِّه وترحاله، إنه لو فعل ذلك فإنه يفتح على نفسه طوفانًا من المساءلات والاستجوابات من جانب مكارثي، ويستهدف لمزيدٍ من الشبهات، ويظهر في النهاية بمظهر المذنب المُريب!
يحَذِّر واتلي Whately من هذه الاستراتيجية الموبِقة في الجدل ويشبهها بتصرف الجيش الذي يحتل حصنًا منيعًا يستطيع الدفاع عنه كل الاستطاعة، فإذا به يبرز طواعيةً من حصنه ويتبعثر في ميدانٍ مفتوح، فيأتيه أعداؤه من كل صوبٍ ويمزقونه كلَّ ممزق! كذلك الأمر في الجدل: فإذا فاتك لحظةً أن تستمسك بخُلُو جانبك حين يكون على خصمك عبء البينة، ورُحت بدلًا من ذلك تنسج حججًا إيجابية (قد تكون ضعيفة) لكي تبرئ ساحتك وتثبت براءتك، فإنك بذلك تُسلِّم سلاحك الأقوى بلا داعٍ وتستبدل به سلاحًا أضعف، يقول المثل الفرنسي «من يعتذر إنما يتهم نفسه!» qui s'excuse، s'accuse، يعني ذلك أنك تُولي ظهرَك للواثبين وتتخذ مظهرَ المذنب تجاه الاتهامات الموجهة ضدك إذ تُحمِّل نفسَكَ عبءَ الدليل حيث كان واجبك الوحيد هو أن تتحدى خصمَك أن يبرهنَ هو على اتهاماته لك برهانًا ساطعًا. (١)
[أمثلة أخرى]
(١) ليس هناك دليل على أن الأشباح (العفاريت) غير موجودة؛ إذن الأشباح موجودة.
(١) Douglas N.Walton: "Burden of Proof"، Argumentation ٢ (١٩٨٨) p. ١٣٥.