هكذا ينشأ ما يُسميه أنتوني فلو Antony Flew، مؤلف كتاب «سياسة بروكرست» ب «البروكرستية الاشتراكية» socialist Procrusteanism أو «العدالة المحافظة» conservative justice، إنها ضرب من اليوتوبيا الاجتماعية تريد أن تفرضَ التجانس على الناس، وتفرضَ المساواةَ المطلقة على المواطنين، فتأخذ من البعض وتعطي البعض الآخر حتى يعتدل الميزان. (١)
إن أنتوني فلو هو بمثابة «ثيسيوس معاصر» يريد أن يحطم البروكرستيةَ بأن يكشِفَ زيفَها وتهافتها ويفضح طبيعتها المؤذيةَ المظلمةَ ويخرجها إلى وَضَح النهار: الأمر هنا ليس مجرد مبدأ شخصي يدعو إليه من يدعو، بالحكمة والموعظة الحسنة، أو ربما بتقديم مثالٍ في التضحية والبر (على طريقة ليو تولستوي مثلًا)، ولكنه منهجٌ سياسي وإداري يُراد فرضُه على نطاقٍ هائلٍ بقوة الآلة الحكومية الجبارة.
لم يقف جنون البروكرستيين السياسيين عند حد:
فمنهم من لم يقنع بإعادة توزيع الثروة على الأفراد بالعدل والقسطاس، فذهب إلى ضرورة تحطيم «نظام الأسرة» - منبع التفاوت بين الناس ومعقل اللامساواة وحصنها الحصين.
ومنهم من ذهب إلى ضرورة فرض «المساواة المعرفية» cognitive equality، فلا ينبغي أن «يعرف» شخصٌ أكثر مما يعرف الآخرون.
بل ذهب بعضُهم إلى ضرورة «تحسين النسل» (اليوجينيا eugenics) لاجتثاث التفاوت من المنبع … من البيولوجيا!
من السخرية أن البروكرستية يمكن أن تبلغَ مأربَها وتَشفِي صدرَها ب «المساواة في الجهل» بقدر ما تشفيه ب «المساواة في العلم»، وأن تقضي وَطَرَها بالإساءة بقدر ما تقضيه بالإحسان! إن مذهب المساواة هو عماد الرفاه، وعماد الضنك أيضًا، ما لم يُستبدَل به مبدأٌ آخر من مبادئ الواجب.
يذهب أنتوني فلو إلى أن مُثُل المساواة في الحرية وتكافؤ الفرصة لا تتفق مع مثل المساواة في الحال المعيشية أو في النتيجة (وهي البروكرستية الحقيقية)، يبدو أن
(١) Antony Flew: Politics of Procrustes.Buffalo: Prometheus Books، ١٩٨١.