للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَطَّرِد الأحداثُ أمام الإدراك البشري في أنماطٍ معينة من التصاحب والتعاقب والتجاور في المكان والزمان، فيَسْتَلُّ من ذلك «علاقات ارتباط» تثير فيه عادة «التوقع»، وقد تترسخ فيه عادة التوقع فتحول علاقة «الارتباط» correlation إلى «عِلِّية» (سببية) causality، (١) فكلما ارتبط حدثان معًا في الزمان والمكان كان ذلك دليلًا عنده على أن أحدهما «عِلَّة» (سبب) cause للآخر، وكلما تَعاقَب حدثان كان سابقُهما سببًا للاحق.

كل ذلك حسنٌ وجميل، وهل العمل العلمي، في شطرٍ كبيرٍ منه إلا اقتفاء للارتباطات التجريبية وتشييد نظريات علمية تفسر هذه الارتباطات بلغة الضرورة القانونية nomic necessity؟ (٢) تأتي المغالطة، على كل حال، عندما يخلط العقل بين «المعية» togetherness/ association و «السببية» causality، ويجعل مجرد الارتباط بين حدثين دليلًا على أن أحدهما سبب للآخر، دون أي بَيِّنةٍ أبعد من ذلك cum hoc ergo propter hoc.

إن إثبات وجود علاقة سببية بين حدثين يستلزم أكثر من مجرد الارتباط: يستلزم الاطِّراد الدائم، والارتباط الدائم بين نمطي الحدثين، إيجابًا وسلبًا، وعدم وجود أي أمثلة مضادة، ذلك أن مجرد «المعية» قد يكون مَرَدُّه إلى:

(١) المصادفة البحتة coincidence.

(٢) وجود سببٍ ثالثٍ أعم من وراء كلا الحدثين، وتسمى المغالطة عندئذ: «إغفال سببٍ مشترك» ignoring a common cause، أو «المعلول المزدوج» joint effect.

(٣) كما أن الاتجاه الحقيقي للعلاقة السببية قد يكون معكوسًا، وتسمى المغالطة هنا: «الاتجاه الخطأ» wrong direction.


(١) جرى الاتفاق مؤخرًا على أن تُترجَم كلمة cause إلى «عِلَّة» بمعنى سبب طبيعي، وتُترجَم كلمة reason إلى «سبب» بمعنى سبب عقلي.
(٢) تُوصَف التفسيرات العلمية عادةً بأنها تفسيراتٌ سببية، على أن هناك فصيلًا من الفلاسفة، هم الوضعيون، يرون أن العلم يتعيَّن عليه أن يكشف الارتباطات correlations (ويصوغها صياغة رياضية قدر المستطاع) وليس عليه أن يحدد أسبابًا، وأما من وجهة النظر القياسية التي ترى أن العلم يُقدِّم تفسيرًا عميقًا للظواهر السطحية، فالتفسيرات العلمية هي تفسيرات سببية قلبًا وقالبًا، على أننا ينبغي ألا نغفل أن بعض التطورات في الفيزياء الحديثة قد كشفت عن أن الضرورة السببية (وتُسمَّى أحيانًا بالحتمية العِلِّية) لا تنسحب على البنية الصغرى (تحت الذرية) للعالم الفيزيائي، وهي ذلك المستوى من الواقع الذي تضطلع بدراسته ميكانيكا الكوانتم.

<<  <   >  >>