للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتأتي التسمية من تلك الممارسة التي كانت شائعةً في العصور الوسطى، والتي تُستخدم فيها دميةٌ على هيئة رجل محشوةٌ بالقش لكي تمثل «الخصم» في ممارسة المقارعة بالسيف، وما تزال صيغٌ من هذه الممارسة شائعةً حتى الآن، وبخاصة في مواقف التعبير عن الاحتجاج والكراهية وفي مظاهرات المناهضة السياسية.

تحمل هذه الممارسة مسحةً من بقايا الفكر البدائي قبل المنطقي، حيث يلتئم الرمز والمرموز إليه، ويقوم الجزء مقام الكل، ويُعامَل اسم الشخص أو خصلة من شعره أو أي أثر من آثاره كأنه بديل له. (١)

تتم مغالطة رجل القش بأن يَجْبُل المحاورة حجةً هشةً سهلة المنال غير حجة الخصم الحقيقية وينسبها إلى الخصم، ثم يُعمِل فيها مَعاوِل الهدم والتقويض، فيضفي انطباعًا زائفًا بأنه نجح في التفنيد، ويعلن انتصاره على خصمه، قد يتم ذلك عن عمدٍ فيكون حيلةً قذرةً وينم على الخبث وسوء النية والافتقار إلى الأمانة في الجدل، وقد يتم عن غير عمد فينم على الغفلة أو الجهل ويكون، في كل الأحوال، مضيعةً للوقت وإهدارًا للجهد في معركة وهمية غير ذات صلة وتُرَّهةٍ خارجة عن الموضوع!

ثمة طرائقُ مختلفةٌ لاتخاذك رجلَ القش: فقد تُقَدِّم الجوانب الأضعف من نظرية الخصم وتتظاهر بأنك تُفنِّد النظرية من كل جوانبها، وقد تقدم حجة الخصم في صورة مضَعَّفة أو مبسطة، وقد تشوه أو تحرِّف حجة الخصم أو تسيء تمثيلها، وقد تختلق شخصًا وهميًّا تنسب إليه أقوالًا وأفعالًا وعقائد وتتظاهر بأنه يمثل الطائفة التي ينتمي إليها الخصم.


(١) «من الأمثلة على التئام الرمز والمرموز إليه، معاملة اسم الشخص كجزء جوهري منه، كأنه بديل له، فلدينا عدد من الأقداح الفخارية الكبيرة نُقش عليها ملوك «المملكة الوسطى» المصريون أسماء القبائل المعادية لهم في فلسطين، وليبيا، والنوبة، وأسماء حُكامها، وأسماء بعض المتمردين المصريين، كانت هذه الأقداح تُحطَّم في احتفال مهيب، قد يقام أثناء جنازة سلف الملك، والغاية من هذا الطقس مذكورة بصراحة: إنها الدعوة بالموت على هؤلاء الأعداء كلهم؛ لأنهم بعيدون عن قبضة الفرعون، غير أننا إذا دعونا تحطيم الأقداح طقسًا رمزيًّا، فاتنا مغزاه، فقد كان المصريون يشعرون أنهم يُلحقون بأعدائهم أذًى حقيقيًّا حين يحطمون أسماءهم، فيضيفون بعد أسماء الخصوم، الذين يعددونهم ويدعون عليهم بالموت، عبارات كهذه: «كل فكرٍ مؤذٍ وكل كلام مؤذٍ وكل أحلام مؤذية وكل صراع موذٍ.» إلخ، فكتابة هذه الأمور على الأقداح التي ستحطَّم تنال، في اعتقادهم، من قدرتها الفعلية على إيذاء الملك أو تقليص سلطانه» (هـ. فرانكفورت وآخرون: ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الطبعة الثالثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٢، ص ٢٥).

<<  <   >  >>