يعني ذلك أن انطباعنا عن الواقع تُشيِّده، إلى حد كبير، اللغةُ التي نستخدمها في وصف الواقع، هكذا تهيب بنا دراسة «التشييء» أن نتوخى الحذر في طريقتنا في وصف الأشياء، لئلا نشرع، دون أن ندري، في تصور أن وصفنا يحوي ماهيةً موضوعيةً خارج اللغة ذاتها.
من الحالات النمطية للبارانويا، أو الفصام البارانوي، أن يُعاني المريض من اعتقادٍ راسخٍ بأنه مضطهدٌ من قبل إخوته وأقاربه وزوجته وجيرانه وأصدقائه وزملاء عمله، وقد يكون هناك شيء من الاضطهاد الطفيف كرد فعل لسلوكه العدواني تجاههم، وقد يكون هؤلاء انفضُّوا عنه نتيجة شكوكه واضطرابه، غير أن المريض لا يعني ب «الاضطهاد» هنا مجرد وصف لسلوك هؤلاء، ولا «يرده» إلى مجموع استجاباتهم السلوكية تجاهه، بل «يُشَيِّئ»(يُؤَقنِم) reify، hypostatize الاضطهاد ويوقن بأن هناك «قوة سرية» من وراء هذه الاستجابات السلبية، ليس «الاضطهاد» عنده مجرد «فئة» من الأحداث يصنِّف تحتها سلوكات الآخرين حياله، بل هي «كيان حقيقي» مستقل عن العالم يقبع من وراء هذه السلوكات ويسببها بطريقة سرية، وما الإخوة والأقارب والزوجة والجيران وزملاء العمل إلا عملاء لهذه «القوة»، إنها كيانٌ واقعي أفلاطوني قائم، يتمتع بوجودٍ حقيقي ووضعٍ أنطولوجي.
إن التشييء ضربٌ من الجنون العقلي سهل الانكشاف في حالة البارانويا، غير أنه أصعب انكشافًا في الحالات الأكثر اعتيادًا وإلفًا، والتي نصادفها كل لحظة في حياتنا اليومية وفي حواراتنا وقراءاتنا ومشاهداتنا التليفزيونية.
يُشيِّئ العرَّافون وزبائنهم مفهوم «المستقبل» وكأنه «شيءٌ» يمكن أن يقبع في المرمدة أو الفنجان أو كرة البلور، أو كأنه نوع من البلاد قائم هناك حيث تجري الحوادث التي سوف يُعاد إنتاجها على هذه الأرض حين يأتي أوانها، إنها «هناك» تمكن رؤيتها على نحوٍ غامض في الكف وثفالة البن وأوراق اللعب، وما عليك سوى انتظار وصولها مثلما تنتظر خطابًا هو في البريد بالفعل.
يقول هيجل:
الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد في الحاضر … إنها القوة المطلقة على الأرض، إنها غاية ذاتها وموضوع ذاتها، إنها الغاية النهائية التي لها الحق الأعلى على الفرد.
ورغم أننا يمكن أن نفهم هيجل فهمًا استعاريًّا يبرِّئه من التشييء، إلا أن كلماته صارت تُفهم فهمًا تشييئيًّا لدى ملايين البشر من مختلف الاتجاهات: منها الماركسي،