للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَعْرف ذلك أيضًا قائدو الأوركسترا المتمرسون، فقد تضم الأوركسترا أمهرَ العازفين قاطبةً ثم لا تتألف منهم فرقةٌ ناجحة؛ ربما لأن كل عازف من هؤلاء يكون مأخوذًا أكثر مما ينبغي بعرض براعته بحيث لا يأتي النغمُ الكلي وحدةً متسقة.

كذلك هو الحال في ميادين القتال، فقد يَعِنُّ لقائد عمليات خاصة أنه حين يضم في فوجه أقوى رجال الجيش جميعًا يستوي له أقوى فرق العمليات، غير أن قوة الفوج تعتمد على عوامل أخرى غير قوة كل جندي على حدة: تعتمد على انسجام الأداء وسرعته، والروح المعنوية للفريق وقدرته على العمل تحت أصعب الظروف وأقل الإمدادات.

تكمن المغالطةُ هنا في عدم القدرة على إدراك أن الجماعة كيانٌ قائم بذاته ومتميز عن أعضائه، ويتصف من ثم بخصائصَ قد لا تنطبق على الأفراد، ومهما تقدم من بيِّنةٍ لإثبات جودة هؤلاء الأعضاء، كل على حدة، فإن هذه البينة غير ذات صلة حين يتعلق الأمر بتقييم الجماعة.

وكثيرًا ما نشهد في حياتنا الواقعية أمورًا تصدق على الأفراد، أو قطاعات من الأفراد، غير أنها لا تعود كذلك إذا توسعنا فيها لتشمل الجماعة بأسرها: خذ الدعم الحكومي كمثال: تُدعِّم الحكومة الحبوب فيستفيد المزارعون، وتدعم الجلود فيستفيد منتجو الجلود … وهكذا. من التسرع رغم ذلك أن «نمد تقديرنا الاستقرائي» extrapolation ونقول: إن الاقتصادَ كله حقيقٌ بالفائدة إذا دعمنا جميع المنتجات، ذلك أن المزارعين ومنتجي الجلود لا يستفيدون إلا إذا كانوا ضمن فئة صغيرة تستفيد من الدعم على حساب كل فرد آخر، فإذا ما امتدَّ المبدأ ليشمل الجميع فإن كل فرد ينال الدعم، وكل فرد يدفع الضرائب للحكومة لكي تقدم الدعم، وكل فرد من ثم يخسر الكثير مما يَصُب في جيب البيروقراطية التي تدير هذه التحويلات!

حين نُنعِم النظرَ إلى مفهوم ال «كل» Whole نجد لدينا صنفين من الكل: هناك «الكل البنائي أو التركيبي» structured whole (١) أي الكل «المركب» من أجزاء مثل: الآلة،


(١) وفقًا ل «نظرية الأنظمة العامة» general systems theory ينطوي العالم على علاقات متبادلة بين جميع الظواهر واعتماد متبادل بين جميع الأشياء، فالكائنات الحية والمجتمعات والأنساق البيئية الكبرى كلها أنساق أو أنظمة تتراتب في هيئة بِنيات متعددة المستويات، يتكون كل مستوى من أنظمة تحتية، كل نظام تحتي هو «كل» بالنظر إلى أجزائه وهو «جزء» بالنظر إلى النظام الأعلى الذي يندرج فيه، كهذا تجتمع الذرات فتكوِّن جُزيئات، وتتحد الجزيئات فتكون بلورات أو لتكوِّن - في الأحياء - عُضيَّات (أعضاء الخلية)، والتي تتحد لتكوِّن الخلايا، ومن اجتماع الخلايا تتكون الأنسجة والأعضاء التي ترتبط معًا لتكوِّن الأجهزة المختلفة، ومن تضافر الأجهزة يتشكل في النهاية الكائن العضوي (الإنسان، … ) ومن أفراد البشر تتكون الأمم، ويمضي التراتب صُعدًا فتتكوَّن الأنظمة الأعلى التي تضم معًا مكونات حية وغير حية، وتشمل الأنساق البيئية، والكواكب والأنظمة الشمسية والمجرات … إلخ.
للأنظمة الأكثر تعقيدًا، والتي تقع على مستوى أعلى في التراتب، خصائص لا يمكن وصفُها بالحدود المستخدمة في وصف مكوناتها أو أنظمتها التحتية الواقعة على مستوًى أدنى، دون إغفال جوانب هامة من تلك الأنظمة، مثل هذه الخصائص الجديدة التي تبزغ أو «تنبثق» في التركيبات أو الأنساق الأكثر تعقيدًا تُسمَّى «الخواص الانبثاقية» emergent properties، وبتعبير أبسط: حين تجتمع بعض المكونات لتكَوِّن نظامًا (نسقًا) تبزغ لهذا النظام الأعقد صفاتٌ جديدة لا يمكن التنبؤ بها بشكلٍ كامل (في مرحلتنا الراهنة من العلم على الأقل) من خلال صفات مكوناتها.
هكذا تلفتنا نظرية الأنظمة إلى حقيقةٍ ما تفتأ تواجهنا على الدوام، وهي أننا قلَّما يتسنى لنا أن نستنبط خواص مفردات أكثر تعقيدًا من خواص مكوناتها، فخواص الماء مثلًا (كالسيولة أو الميوعة والخمول والتوتر السطحي … ) هي خواص لا تُشبه من قريب أو بعيد خواص الأوكسجين أو الهيدروجين، وهكذا تتجلى لنا مزالق النزعة الردية (الاختزالية) reductionism في أوضح صورة: ذلك أن أنساق الطبيعة تنطوي على «جِدَّة» novelty حقيقية، وأن للمستوى الأعلى من مستويات الوجود صفاته الجديدة وقوانينه الخاصة التي يجب أن نتوجه إليها مباشرة ونقابلها على أرضها وندرسها بحقها الشخصي (عادل مصطفى: أنثوية العلم، مجلة سطور، القاهرة، العدد ٩٧، ديسمبر ٢٠٠٤، ص ٨٥).

<<  <   >  >>