للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(١) أما الذي يحدث بالفعل فهو أن المعارضين يموتون عن نموذجهم واحدًا بعد الآخر، وينشأ الجيل القادم على إلفٍ بالفكرة الجديدة منذ البداية! ومن النتائج البحثية اللافتة ما وجده عالم النفس ديفيد بيركينز من ارتباط موجب بين درجة الذكاء (كما تقدِّرها اختبارات الذكاء القياسية) وبين القدرة على تعضيد الرأي والدفاع عنه، وارتباط سالب بين الذكاء وبين القدرة على أخذ الآراء البديلة بعين الاعتبار، وبتعبير أبسط: كلما ارتفع معدل الذكاء كان الفرد أكثر مناعةً أيديولوجية وأقل قدرةً على الاستجابة للفتوحات الفكرية الجديدة (!).

ويبدو أن المناعة الأيديولوجية هي شيء متأصل في الأداء البحثي العلمي، حيث تعمل ک «مُرَشِّح» أو «مصفاة» تُرشِّد اندفاع التجديدات العلمية وتردها إلى الحصافة والحذر، من دأب المجتمع العلمي أن يقاوم التجديدات العلمية الثورية لا أن يفتح لها ذراعيه! لأن لكل عالمٍ ناجحٍ مصلحةً مكتسبة (فكرية واجتماعية بل ومالية) في الحفاظ على الوضع القائم، ولو أن كل فكرة جديدة ثورية استُقبِلَت بالترحاب لكانت النتيجة هي فوضى كاملة وشواش تام.

بوسعنا تعميم ذلك على أصعدة الحياة جميعًا فنرى إلى مسيرة التقدم في كل شيء على أنه توتر محسوب بين بروكروست وثيسيوس! بين التقليد والتجديد، بين الموالاة والمعارضة، بين اليمين واليسار، في مسرحية «أوديب» لأندريه جيد يلخص «كريون» هذه القضية تلخيصًا مُحكمًا في الفصل الثاني، إذ يقول لأوديب: « … لو لم نكن متباينين إلى هذا الحد لما وجد أحدٌ منا هذه المتعة حين يفهم عن صاحبه: وإني أيها الصهر العزيز لأحب حديثك؛ لأنك تفتح لي آفاقًا لم أكن لأهتدي إليها وحدي، فلك الابتكار والتجديد، أما أنا فيُقيدني الماضي، وأنا من أجل ذلك أحترم التقاليد والعادات والقوانين المقرَّرة، ولكن ألا ترى أن من الخير للدولة أن يمثل هذا كله، وأني أحقق التوازن المفيد بإزاء عقلك المجدد، فأحول بينك وبين الاندفاع أو أهَدِّئ من مغامراتك الجريئة التي توشك أن تحطم نظام الجماعة إذا لم تؤخذ بشيء من القصد يأتيها من هذا السكون، ومن هذا التشبث بالقديم … » (٢)


(١) أي يتحول شاول Saul مضطهد المسيحيين الأوائل إلى القديس «بولس» Paul نصير المسيحيين ومؤسس المسيحية كمذهب منظم.
(٢) أندريه جِيد: أوديب، ثيسيوس، ترجمة طه حسين، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٦٨، ص ٦٧.

<<  <   >  >>