للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النقاش عقيمًا لأن المتحدثين، ببساطة، لا يتحدثون عن شيء واحد.» (١) قد يُخطئ الشاعر خطأً علميًّا جسيمًا وتبقى قصيدته مثالًا للصدق الفني.

الصدق صفةٌ للقضايا، فتوصف القضية بالصدق إذا كان ما تقرره مطابقًا للوقائع التي يُفترض أنها تصفها، وتوصَف بالكذب إذا كان غير مطابق، بيد أن هناك قطاعات عريضة من التعبير البشري لا تتحدث عن وقائع موضوعية، وبالتالي لا تحتمل الصدق والكذب بالمعنى الدارج، تلك هي الأحكام التقويمية وعبارات الأمر والتمني وغيرها من الصِّيغ التي تُضمِر مشاعر ووجدانات ذاتية تَنِد بطبعها عن التحقق الموضوعي، ومنها بيت بشار السابق الذي يصف نفسه فيه بالنحافة والضعف بينما كان هائل الجِرم كأنه جاموس، (٢) إنه تقريرٌ عن مواجيدَ نفسية وليس تقريرًا طبيًّا يتضمن بنودًا عن الوزن والضغط والنبض وسرعة الترسيب … إنه رقعةٌ فنية، تستعصي بطبعِها على التحقق الموضوعي، غير أن هذا لا يحرمها من أن تتمتع بصدقٍ من صنفٍ آخر، وحقيقةٍ من نوعٍ مختلف.

تلك هي «الحقيقة الفنية» في مقابل «الحقيقة الواقعية»، وهي حقيقة تتحد بمَدَى جودة التعبير وتوفيقه في نقل التجارب التي انبرى لنقلها ومعادلة المشاعر التي اضطلع بمعادلتها، وقديمًا قال أرسطو: «إذا أسهمت الكذبةُ في التأثير الجمالي للعمل فينبغي أن نقبلها.»

نعم … حين يكون الأمرُ أمر تجارب وجدانية ومشاعر ذاتيةٍ يخف وزن الجزئيات الموضوعية بعض الشيء ويتضاءل شأنها، وهل كان لغلطة كيتس الواقعية خطرٌ يُذكر على سونيتته «عند القراءة الأولى لترجمة تشابمان لهوميروس» التي يقول فيها:

عندها شعرتُ بأني أشبَه بكورتيز الفتي،

وهو يحدِّق إلى المحيط الهادي بعيون النسر بينما كل رجاله


(١) جيروم ستولنيتز: النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٨١، ص ٤٦٠.
(٢) يقول جان كوكتو: «أنا كذبةٌ تقول الحقيقة دائمًا.» وهو قولٌ صادق، وأصدق منه قول فيلهلم دلتاي: «حقيقة الأمر أن العمل الفني لا يريد أن يقول أي شيء على الإطلاق عن مؤلفه، بل يقف هناك … حقًّا في ذاته … نابتًا … مشهودًا … باقيًا.»

<<  <   >  >>