للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم تستطع هذه النصرانية الملقحة بالوثنية المشوهة أن تغير من سيرة الروم المنحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة، حياة دينية نقية طاهرة، بل إنها ابتدعت رهبانية (١) [كرد فعل معاكس] لعلها كانت شرًا على الإنسانية والمدنية من بهيمية رومة الوثنية» (٢).


= اعتقاد شديد بها طفرة، من غير سابق تمهيد، ولكن العجب يزول إذا كان الانتقال مقصورًا على مجرد الانتقال من الكفر إلى الإيمان، فإن لذلك نظائر وأشباهًا، بل العجب كل العجب أن ينتقل شخص من الكفر المطلق بدين إلى الرسالة في الدين الذي كفر به، وناوأه وعاداه، فإن ذلك ليس له نظير وليس له مشابه، ولم يعهد ذلك في أنبياء ورسل قط، وهذه توراة اليهود وأسفار العهد القديم التي يؤمن بها المسيحيون كما رووها، وكما قالوها، ليذكروا لنا رسولًا بعث من غير أن يكون في حياته الأولى استعداد لتلقي الوحي، وصفاء نفس يجعله أهلًا للإلهام؟ ولا يجعل الاتهام والتكذيب يغلبان على رسالته، وأنه إذا لم يكن للرسالة إرهاصات قبل تلقيها، لا يكون على الأقل قبلها ما ينافيها ويناقضها، ولكن پولس أبو العجب استطاع أن يتغلب على ذلك العجب في عصره، وأن يفرض نفسه على المسيحيين من بعده، وأن يحملهم على نسيان العقل عندما يدرسون أقواله وآراءه وتعاليمه» اهـ[أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص (٧٣)] .. وعلى النقيض، فتذكر الأناجيل أن پولس قد أخلص لدعوته حتى ثار عليه يهود أورشليم وتآمروا على قتله [انظر، أعمال الرسل، الإصحاح ٢١ وما بعده]، أو كما يُنسب إلى بطرس قوله في حق پولس: «كما هي الحال في جميع رسائله التي تكلم فيها على هذه المسائل فوردت فيها أمور غامضة يحرِّفها الجهال وضعفاء النفوس، كما يفعلون في سائر الكتب المقدسة لهلاك نفوسهم» [رسالة بطرس الثانية ٣: ١٦]. وخلاصة القول، فنقول كما قال الدكتور أحمد القاضي: «أيًا كان الأمر، فقد أحدث [پولس] شرخًا عظيمًا في مسيرة النصرانية، ونقلها نقلة واسعة من ديانة توحيدية إصلاحية موجهة إلى بني إسرائيل خاصة، إلى ديانة أمشاج صبت فيها ثقافات شتى، في محاولته الرامية لاستيعاب الأمم الأخرى، عبر صياغات عقدية دخيلة، بلغة تفهمها الأمم الوثنية» اهـ[د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان (١/ ٩٤)].
(١) قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧]. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: «وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعتها أمة النصارى، {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم. وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان، أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين، أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله - عز وجل -» اهـ[ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (٨/ ٢٩)].
(٢) وليس أدل على ذلك في عصرنا الحالي من الفضيحة التي فجرتها صحيفة الجارديان الإنجليزية في يوم =

<<  <   >  >>