للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما الطائفة الثالثة: وهم جل الصحابة - رضي الله عنهم - كسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وسلمة بن الأكوع وغيرهم ... وهؤلاء اعتزلوا الفتنة اعتمادًا على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها، وهذا الأصل هو ترك القتال في الفتنة.

روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن تشَرَّف تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذًا فليَعُذ به» (١)، قال ابن حجر (٢): «وفيه التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها» اهـ.

وقد روى أبو نُعَيْم (٣٣٦ - ٤٣٠هـ) في الحلية عن ابن سيرين (ت. ١١٠هـ) قال: «لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال: لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد» (٣)، وفي زيادة رواها ابن عساكر في تاريخه والغزالي في الإحياء أن سعدًا - رضي الله عنه - ضرب لهم مثلًا وقال: «مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة (٤)، فبينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق والتبس عليهم، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال الآخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح، فننيخ (٥)، فأناخوا، وأصبحوا، وذهبت الريح، وتبينت الطريق، فهؤلاء هم أهل الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن حتى نلقاه» (٦).


(١) البخاري، كتاب الفتن: ٧٠٨١
(٢) ابن حجر: فتح الباري (١٣/ ٣١).
(٣) أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (١/ ٩٤) عن ابن سيرين.
(٤) المحجة البيضاء الواضحة.
(٥) أي نبرك ونجلس.
(٦) تاريخ ابن عساكر (٣٩/ ٤٩٦) عن ميمون بن مهران، و (الإحياء) للغزالي (٢/ ٢٣٣)، واللفظ لابن عساكر.

<<  <   >  >>