للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكنهم هذه المرة «نحَّوا أمر السلاح جانبًا إلى أن يحين حينه ويصبح قادرًا وحاسمًا. فلم يبق لهم إذن إلا سلاح العقل والعِلم والتفوق واليقظة والفهم وحسن التدبير، ثم المكر والدهاء واللين والمداهنة وترك الاستثارة، استثارة عالم ضخم مجهول ما في جوفه، ولا قِبَل لهم بتدفق أمواجه الزاخرة، والتي كان التُرك الظافرون طلائعها الظاهرة لهم عيانًا في قلب أوروپا» (١).

ومن ثم كانت الخطوة الجديدة هي «بعثة أعداد كبيرة ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادة ما، تخرج لتسيح في أرض الإسلام، وتجمع الكتب شراءً أو سرقة، وتُلاقي الخاصة من العلماء، وتخالط العامة من المثقفين والدهماء، وتُدَوِّن في العقول وفي القراطيس ما عسى أن ينفعهم في فهم هذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعلى قرونًا طوالًا. يخرجون أفواجًا تتكاثر على الأيام، ويجوبون أرجاء هذا العالم، ويعودون لإتمام عملين عظيمين: إمداد علماء اليقظة بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوها أو سطوا عليها، وإطلاعهم على ما وقفوا عليه فيها، باذلين كل جهد ومعونة في ترجمتها لهم، وفي تفسير رموزها بقدر ما استفادوا من العلم بها، وأيضًا إطلاع رهبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار الإسلام وما رأوه عيانًا فيها، وما لاحظوه استبصارًا. وكان أهم ما لاحظوه أو خبروه، هذه الغفلة المطبقة على أرض الإسلام، والتي أورثهم إياها الاستنامة إلى النصر القديم على المسيحية، والاغترار بالنصر الحادث بفتح القسطنطينية، ثم سماحة أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم مع من دينه يخالف دينهم، ولا سيما اليهود والنصارى، لأنهم أهل كتاب وأهل ذمة» (٢) ..

ومضت أعوام أخرى، تتقدم فيها أوروپامسرعة نحو الأمام، في حين تتراجع الأمة الإسلامية نحو الوراء، والأيام دُوَل! حتى جاء الوقت الذي بلغ (الطفل) الأوروپي فيه أشده، وقد ترسخت في وجدانه فكرة مغلوطة عن الإسلام عاطفية وغير متزنة.

وكما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (٣)، فطاقت غريزته التوسعية غير الرشيدة إلى التسلط و (الاستخراب)، فخرج بقواته غازيًا أركان


(١) السابق، ص (٤٦) بتصرف يسير.
(٢) السابق، ص (٤٧ - ٨).
(٣) العلق: ٦ - ٧

<<  <   >  >>