الحقيقةِ، ونفيِ التأويلِ عن الظاهِر، لا لتقريرِ لفظٍ مغايِرٍ، وتجويزِ مِثْلِهِ في كلِّ موضعٍ؛ فهؤلاءِ حينما يعبِّرونَ عنِ الاستواءِ بغيرِه، لا يَجعَلُونَ تعبيرَهم تشبيهًا؛ فهم يُثبِتُونَ اللفظَ الآخَرَ بلا تشبيهٍ ولا تمثيل؛ فيذكُرُونَهُ دفعًا للتعطيلِ والتأويل، وإثباتًا للحقيقةِ التي تليقُ بالخالق، ونفيًا لِمَا يليقُ بالمخلوق؛ فكما أنَّهم يَنفُونَ التشبيهَ عند التعبيرِ بالاستواء، فكذلك يَنفُونَهُ عند التعبيرِ بالجلوسِ والقعودِ.
ولمَّا كان بعضُ المفوِّضةِ الذين يتوقَّفون في إثباتِ حقيقةِ الاستواءِ التي تليقُ بالله، وبعضُ المتأوِّلةِ الذين يَحمِلُونَهُ على معنًى غيرِ الحقيقة، يَستنكِرُونَ على بعضِ السلفِ إطلاقَ مِثْلِ هذه التعابيرِ؛ لأنَّهم يفوِّضونَ أو يتأوَّلونَ اللفظَ الوارِدَ، فيَستثقِلُونَ اللفظَ غيرَ الواردِ -: فهم فوَّضوا وتأوَّلوا؛ فرارًا مِن التشبيهِ المتوهَّمِ؛ فتأويلُهُمْ للتعبيرِ بغيرِ الواردِ ثقيلٌ على ما يعتقِدُونَ؛ لأنه يرسِّخُ إثباتَ الحقيقة، وهم يَفِرُّون منها؛ وإلَّا فإنَّ السلَفَ الذين يعبِّرون بما لم يَرِدْ، لا يُرِيدُونَ التشبيهَ به؛ فهم إذا لم يشبِّهوا باللفظِ الواردِ في النصِّ، فغيرُ الوارِدِ مِن بابِ أَوْلى.
وقد جاء في حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ:"إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ -عز وجل- عَلَى الْكُرْسِيِّ"(١)؛ رواه عنه عبدُ اللهِ بن خَلِيفَةَ؛ أَخرجَهُ الدارِميُّ، وعبدُ اللهِ بن أحمدَ في "السُّنَّة".
وربَّما عبَّر بعضُ السلفِ عن الاستواءِ ببعضِ لوازمِهِ؛ كالعلوِّ، والارتفاعِ؛ لأنَّه لا يَستوِي إلا مرتفِعٌ وعالٍ على غيرِه، ويَظهَرُ هذا في قولِهِ تعالى:{عَلَى الْعَرْشِ}[طه: ٥]؛ فـ "على" تَدُلُّ على العلوِّ والفوقيَّة.
ولا يَلزَمُ مِن إثباثِ حقيقةِ الاستواءِ: القولُ بالتشبيه؛ وهذا اللازمُ
(١) "نقض الدارمي" (١/ ٤٢٥ - ٤٢٦)، و "السُّنَّة" (٥٨٥ و ٥٨٧ و ١٠١٩).