للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المتوهَّمُ هو الذي دفَعَ إلى تعطيلِ الصفاتِ وتأويلِها، والجهلُ بكيفيَّةِ الشيءِ لا يُجِيزُ تأويلَهُ أو نفيَهُ؛ كما قال ابنُ عبد البَرِّ: "لقد أَدْرَكْنا بحَوَاسِّنا: أنَّ لنا أَرْوَاحًا بأبدانِنا، ولا نَعلَمُ كيفيَّةَ ذلك، وليس جَهْلُنَا بكيفيَّةِ الأرواحِ يُوجِبُ أنْ ليس لنا أرواحٌ، وكذلك ليس جهلُنا بكيفيَّةِ [استوائِه] على عرشِه، يُوجِبُ أنه ليس على عَرْشِه" (١).

فيجبُ إثباتُ الاستواءِ حقيقة، وتفويضُ كيفيَّته؛ لأنَّ اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١]، وقد قال رجلٌ لمالكٍ: "يا أبا عبد اللهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]؛ كَيْفَ استَوَى؟ قال: الاستواءُ غيرُ مجهولْ، والكيفُ منه غيرُ معقولْ، والسؤالُ عنه بِدْعة، والإيمانُ به واجب، وأَرَاكَ صاحبَ بِدْعةٍ؛ أَخْرِجُوهُ! " (٢).

فقد نفى مالكٌ معرفةَ الكيفيَّةِ وفوَّضَها، ولم يفوِّضِ الحقيقةَ؛ ولذا قال: "الاستواءُ معلومْ، والكيفُ مجهولْ"، ولا يكونُ الكيفُ إلَّا لِمَا له حقيقةٌ، وما لا حقيقةَ له لا يُحتاجُ إلى تفويضِ تكييفِهِ؛ لأنه ليس صفةً للذاتِ التي ليس كمِثْلِها شيءٌ.

وقد نفَتِ المعتزِلةُ الاستواءَ، وفسَّروه بالاستيلاءِ؛ وهذا ما لا تَعرِفُهُ العرَبُ ولا هو جائزٌ في كلامِها؛ كما قاله الخليلُ بنُ أحمَدَ (٣).

وكلُّ ما لا مَجَالَ للعقلِ فيه، فلا يجوزُ الخوضُ فيه، ومِن ذلك: ذاتُ اللهِ وصفاتُهُ، وإنما يُكتفَى بالقَدْرِ الوارِدِ في السمع، ولا يُزادُ عليه؛ فما دَلَّ السياقُ على حقيقتِهِ تُثبَتُ حقيقتُهُ؛ لأنَّ هذا مقتَضَى اللسانِ العرَبيِّ الأوَّلِ بلا تكلُّفٍ، وتفوَّضُ كيفيَّتُه.


(١) "التمهيد" (٧/ ١٣٧).
(٢) "الرد على الجهمية" للدارمي (١٠٤)، و "شرح أصول الاعتقاد" (٦٦٤).
(٣) "العرش وما روي فيه" (ص ١٦٥ - ١٦٦).

<<  <   >  >>