للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للمخلوقاتِ الكلامَ والنطقَ والإسماعَ بلا حاجةٍ لذلك، وهي جماداتٌ؛ كما قال تعالى عن السمواتِ والأرضِ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: ١١]، وقال عن الجِبال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: ٧٩]، وقال عن الجوارحِ إنها تقولُ: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: ٢١]؛ وهذا في مخلوق؛ فكيف بخالِقٍ ليس كمثلِهِ شيءٌ؟ !

ثُمَّ إنَّ هذا التأصيلَ يَنسحِبُ على جميعِ الصفات؛ كالبصَر؛ فهل يَصِحُّ أن يقالَ: إنَّ البصَرَ يحتاجُ إلى حَدَقةٍ ونُور؛ كما يحتاجُ الكلامُ لحَلْقٍ وهَوَاء؟ !

وهؤلاءِ يتوهَّمون أنهم إنْ نَفَوُا الصوتَ والحرفَ، وأثبَتُوا الكلامَ النفسيَّ: أنهم يُثبِتُونَ صفةَ الكلامِ لله، وكما قال أحمدُ عن الجهميَّة: "قالوا: إنَّ اللهَ لم يتكلَّمْ ولا يتكلَّمُ، إنما كوَّن شيئًا، فعبَّر عن الله، وخلَقَ صوتًا، فأسمَعَ" (١).

وكلامُ متقدِّمي المالكيَّةِ يجري مَجرَى السلفِ؛ فكلامُهم جارٍ في إثباتِ أنَّ كلامَ اللهِ كلَّه غيرُ مخلوق، وقد سأل محمَّدُ بن سُحْنُونٍ مَن قالَ بخلقِ القرآنِ: "أرأَيْتَ كلَّ مخلوقٍ: هل يَذِلُّ لخالقِهِ؟ فسكَتَ الرجلُ! ثُمَّ قال ابنُ سُحْنُونٍ: إنْ قال: كلُّ مخلوقٍ يَذِلُّ لخالقِه، فقد كفَرَ؛ لأنه جعَلَ القرآنَ ذليلًا على مَذْهَبِهِ الذي يَرَى القرآنَ مخلوقًا، واللهُ يقولُ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: ٤١ - ٤٢]، وإنْ قال: إنه لا يَذِلُّ، فقد رجَعَ إلى مذهبِ أهلِ الحقِّ" (٢).


(١) "الرد على الجهمية" (ص ١٣٥ - ١٣٦).
(٢) "رياض النفوس" (١/ ٤٤٨ - ٤٤٩).

<<  <   >  >>