للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَقِيَ أبو بكرِ بن العَرَبيِّ أصحابَ الجُوَيْنيِّ في المشرقِ؛ كالغَزَاليِّ، ولكنَّه لم يَلْقَ الجوينيَّ نَفْسَهُ؛ فأخَذَ علمَهُ ونشَرَهُ في المغربِ واتسَعَ.

ولم يكنْ مذهبُ المتكلِّمينَ -التأويلُ والتفويضُ التامُّ- منتظِمًا في المغربِ الأقصى والأدنى، ولا رَوَاجَ له مستمِرٌّ، وإنما في أفرادٍ وزوايا، حتى آخِرِ القرنِ الخامسِ؛ كما قال ابنُ حَزْم: "إنَّ الأشعريَّةَ قامَتْ لهم سُوقٌ بصِقِلِّيَّةَ والقَيْرَوانِ، ثم رَقَّ أمرُهم" (١).

وكان أوَّلُ أمرِهم وإدخالِهم علمَ الكلامِ في الاعتقادِ يستنكِرُهُ علماءُ المغربِ، وربَّما بالَغُوا في ذلك، وقد كان الأندلسيُّ أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ القَحْطانيُّ يَصِفُهم في "قصيدتِهِ" بـ "الزنادقةِ"، وكان ذلك في منتصَفِ القرنِ الرابع (٢)، ومِن بعدِهِ فعَلَ ابنُ حزمٍ، وسمَّى مَقَالَتَهم بـ "الملعونةِ" (٣)، حتى ذكَرَ المَرَّاكُشِيُّ في "المُعجِب": أنَّ أهلَ المغرِبِ أوَّلَ الأمرِ كفَّروا كلَّ مَن دخَلَ في علمِ الكلامِ (٤)، وكان بعضُ الأئمَّةِ يُسأَلُ عن حكمِ لعنِ مَن استعمَلَ علمَ الكلامِ وسبِّهم؛ كما سُئِلَ ابنُ أبي زيدٍ، وابنُ رشدٍ (٥).

والإشاراتُ في تفويضِ الحقيقةِ في كلامِ بعضِ أئمَّةِ المغارِبةِ، لا تعني: أنهم يؤصِّلون لذلك، وإنما هي تقريراتٌ عارِضةٌ يقرِّرونَ في نظائِرِها خلافَها؛ مما يدُلُّ على أنَّهم لم يكونوا على أصولِ الكلام في التأويلِ والتفويضِ التامِّ، وإشاراتُ التفويضِ عند بعضِ المغارِبةِ المتقدِّمينَ نظيرُ إشاراتِ التشبيهِ في كلامِ بعضِ المشارِقةِ التي ليست أصلًا لَدَيْهِم؛ يقرِّرونَ خلافَها في مواضعَ أُخرى مِن النظائر.

وقد كان المتقدِّمونَ مِن المالكيَّةِ على إثباتِ حقيقةِ الصفاتِ وإمرارِ


(١) "الفصل" (٤/ ١٥٥).
(٢) "النونية" (١٨٧).
(٣) "الفصل" (٤/ ٣٤).
(٤) "المعجب" (ص ١٣١).
(٥) "مسائل ابن رشد" (١٥٣ و ٢١٥).

<<  <   >  >>