للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما وردت الرويات باستحسان أئمة اللغة لهذه الصفة، فيما أثر عن عيسى بن عمر قوله: ما آخذ من قول تميم إلا بالنبر، وهم أصحاب النبر، وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا (١).

وبلغ ولوع بعضهم إلى حد تحقيق ما أباح القياس تسهيله، فقد روى أبو زيد قول العرب (٢): غفر الله له خطائته، ومنه قول الشاعر:

فإنك لا تدرى متى الموت جائىء ... إليك ولا ما يحدث الله في غد

وهمزوا ما ليس بمهموز أصلا، كقولهم: معائش في معايش، ومنائر في مناير، ومصائب في مصاوب والخأتم والعألم، وقرأ ابن كثير: {وَكَشَفَتْ عَنْ سَأقَيْهَا} (٣) بالهمز وأنشد الفراء:

يا دار مى بدكا ديك البرق ... صبرا فقد هيجت شوق المشئق

ويقولون: لبأت بالِحج، ورثأت زوجى، وحلأت السويق، واستلأمت الحجر. وقرأ عمرو بن عبيد: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (٤) وقرأ أيوب السختيانى: {وَلَا الضَّألِّينَ} بالهمز ومنه: شأبة ودأبة، وابيأض وادهأم (٥). ويقولون في الوقت (٦)؛ هذه حبلأ في حبلى، ورأيت رجلأ في "رجلاً". وعلى النقيض من ذلك: نظر قوم منا لعرب إلى الثقل الذى يصَاحبُ إنتاج صوت الهمزة، من حيث كونها أدخل الحروف في الحلق، وفي إخراجها شدة وانفجار ونبر كريه يجرى مجرى التهوع (٧)، لذلك فروا من التحقيق إلى التسهيل، ومن هؤلاء قوم معتد بلغتهم، كقريش، وأكثر أهل الحجاز، ومنهم هذيل، وأهل المدينة، والأنصار، وغاضرة، وكنانة بن بكر (٨). وقد روى أبو زيد أن أهل الحجاز، وهذيل وأهل مكة، والمدينة لا ينبرون (٩)، وروى عن على - رضي الله عنه - أنه قال: "نزل القرآن بلسان قريش وليسوا بأصحاب نبر، ولولا أن جبريل عليه السلام نزل بالهمز على النبى - صلى الله عليه وسلم - ما همزنا" (١٠) وروى في الحديث أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا نبىء الله فقال: "لا تنبر باسمى" أى لا تهمز. وفي رواية: "إنا معشر قريش لا نبر" (١١).

وقد اعتدت اللغة المثالية بهذا التسهيل، وأخذت به كصفة مستحسنة تفرعت عن التحقيق الذى آثرته قبلا، وتنزل ببعض مظاهرها القرآن الكريم، وتصرف العرب في الهمز بقصد التسهيل والتيسر، بطرق مختلفة، منها الحذف، والتسهيل، والإبدال، يقول سيبويه (١٢) اعلم أن الهمز إنما فعل بها هذا من لم يخففها؛ لأنه بَعُدَ مخرجُها، ولأنها نبرة في الصدر تخرج باجتهاد، وهى أبعد الحروف مخرجا، فثقل عليهم ذلك. لأنه كالتهوع. وقال (١٣): اعلم أن الهمزة تكون فيها ثلاثة أشياء: التحقيق والتخفيف والبدل، فالتحقيق قولك: قرأت، ورأس، وسأل، ولؤم، وبئس، وأشباه ذلك، وأما التخفيف فتصير الهمزة فيه بين بين، وتبدل وتحذف.


(١) انظر اللسان ص ٢٦ ط دار المعارف، وشرح الشافية ٣/ ٣٢ والكتاب ٣/ ٥٤٢.
(٢) الخصائص ٣/ ١٤٣ وسر صناعة الإعراب ١/ ٨١ وشرح الشافية ٣/ ٥٨ وشرح المفصل ٩/ ١١٧.
(٣) سورة النمل آية ٤٤.
(٤) سورة الرحمن آية ٣٩ وانظر الخصائص ٣/ ١٤٨، وسر الصناعة ١/ ٨٣ وشرح الشافية ٢/ ٢٤٩.
(٥) سر الصناعة ١/ ٨٢ والخصائص ٣/ ١٤٨ وشرح المفصل ١٠/ ١٢ وشرح الشافية ٢/ ٢٤٨.
(٦) سر الصناعة١/ ٨٤ والخصائص ٣/ ١٤٧، ١٤٨ وشرح المفصل ١٠/ ١٣ وشرح الشافية ٢/ ٢٤٩.
(٧) سر الصناعة ١/ ٥٢، وشرح المفصل ٩/ ١٠٧ وشرح الشافية ٣/ ٣١ والأصوات اللغوية ٩١ ودراسات في علم اللغه ١٠٩ - ١٢٩. والقراءات القرآنية ق ضوء علم اللغة الحديث ص ٢٠.
(٨) الكتاب ٣/ ٤٢ وشرح المفصل ٩/ ١٠٧، وشرح الشافية ٣/ ٣١ - ٣٣ واللهجات. العربية في التراث ص ٢٥٩، ٢٦٠.
(٩) اللسان ص ٢٦ ط دار المعارف.
(١٠) شرح الشافية ٣/ ٣٢.
(١١) الفائق ٣/ ٤٠١ واللسان (نبر ٤٣٢٣).
(١٢) الكتاب ٣/ ٥٤٨.
(١٣) السابق ٣/ ٥٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>