للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان كثير من الناس يُحضِرون أولادَهم مجالسَ السماع في صغرهم ليتعوَّدوا ذلك, ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمَّل السفر الطويل والمشاقَّ الشديدة، وقد لايكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلّها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع. ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنُّه الثلاثين أو نحوها، فتكون أُمنيته من الحياة أن يقبله علماءُ الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عَرَف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثَه وضاع مجهوده طول عمره، وربح سوء السمعة واحتقار الناس.

وتجد جماعةً من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا، مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث.

ومن تتبع أخبارَهم وأحوالَهم لم يعجب مِنْ غَلَبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذَّابين منهم. ومن تتبَّع تشدُّد الأئمة في النقد لم يعجبْ مِن كثرة من جرَّحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدُّد.

وبالجملة، فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلًّا. وأرجو أن يكون فيما ذكرتُه ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعُهم ــ بإفاضتهم في ذكر الوضع ــ من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أنّ الله تعالى أخلَّ بما تكفَّل به مِنْ حفظ دينه، وأنَّ سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عَجَزوا عنه فاختلط الحقُّ بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه. كلَّا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن