ذلك أنَّ الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفةً مما يُراد البرهنة عليه، ومن البديهي أننا حين نختلف حول شيء فإننا نلجأ إلى شيء آخر لا نختلف حوله، ونحاول أن نستدل منه على ذلك الشيء الخلافي، ولكي تكون للحجة قوة إبستمولوجية أو ديالكتيكية يتوجب أن تبدأ من مقدمات معروفة ومقبولة أصلًا لدى الحضور، ثم نتقدم منها لكي نستخلص النتيجة غير المعروفة أو غير المقبولة، أما أن «نصادر على المطلوب» ونستند إلى ذات النتيجة الخلافية وقد تَنَكَّرت كمقدمة، وأما أن ندور في حلقة مفرغة ونحاول أن نَخْلُص إلى نتيجة تستند إلى مقدماتٍ ملقمةٍ بها أصلًا (أي تستند إلى ذاتها!) فهذا فكرٌ عبثي فارغ لا يمكن أن يفضي إلى أيِّ تقدم في المعرفة البشرية.
تتلون المصادرة على المطلوب بألوانٍ كثيرة، وتتخذ أشكالًا متعددة، وتُجِيد التخفي أحيانًا في هيئةٍ يتعذَّر كشفها إلا على المنطقي الخبير.
من أبسط صور المصادرة على المطلوب وأكثرها شيوعًا أن تجعل المقدمة صيغة أخرى من النتيجة المراد البرهنة عليها، مثال ذلك:
تستلزم العدالة أجورًا مرتفعة؛ وذلك لأن من الحق والصواب أن يكون الناس أقدر على الكسب الوفير. (وهي لا تعدو أن تقول إن العدالة تتطلب زيادة الأجور لأن العدالة تتطلب زيادة الأجور!)
يجب إلغاء المواد غير المفيدة كاللغة الإنجليزية من مقررات الكلية؛ وذلك لأن إنفاق اعتمادات لمادة غير مفيدة للطالب هو شيء لا يقره أحد. (نحن أيضًا لا نوافق على تبديد أموال في تدريس مواد غير مفيدة، غير أن الحجة هنا لم تثبت لنا أن الإنجليزية مادة غير مفيدة، وهو لب المسألة، وكل ما فعلَتْه هو أن «صادرت على المطلوب» وكررت النتيجة في المقدمات، دون التفات إلى المقدمة المحذوفة في هذا «القياس المضمر» enthymeme، وهي:«اللغة الإنجليزية مادة غير مفيدة».)
أيُّما شيء أقل كثافةً من الماء سوف يطفو فوقه؛ وذلك لأن مثل هذه الأشياء لا يمكن أن تغطس في الماء.
ما دُمت لا أكذب، فأنا إذن أقول الحقيقة.
قد يبدو للقارئ المبتدئ أن المصادرة على المطلوب هي مغالطة واضحة للعيان سهلة الانكشاف، وليست بحاجة إلى دراسة وتحليل يختلق صعوبةً حيث لا صعوبة، غير أن الأمر ليس دائمًا ببساطة الأمثلة السابقة، ويكفي أن نقول إن عقلًا بحجم عقل أرسطو، المعلم