للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأول ومؤسس المنطق الصوري، قد ارتكب مصادرةً على المطلوب بَيَّنها جاليليو «حينما أراد أرسطو أن يُثبت أن الأرض في وسط العالم، فقال: الأجسام الثقيلة تميل بطبعها إلى مركز العالم والأجسام الخفيفة تبتعد بطبعها عنه، والتجربة تدلنا على أن الأجسام الثقيلة تميل إلى مركز الأرض والخفيفة تتبعد عنه؛ إذن مركز الأرض هو بعينه مركز العالم.» (إن المقدمة الكبرى هنا فيها مصادرة على المطلوب، فإن التجربة تدلنا حقًّا على أن الأجسام الثقيلة تميل إلى مركز الأرض والخفيفة تبتعد عنه، ولكن من أين يقول لنا أرسطو إنها تميل إلى مركز العالم، إذ لم يكن يفترض أن مركز الأرض هو بعينه مركز العالم؟ وهذا هو المطلوب البرهنة عليه!) (١)

بديه أن أرسطو كان ممتلئًا ب «مركزية الأرض» geocentrism وهو يصوغ هذه الحجة، وإنه لمن العسير حقًّا أن تصوغ حججًا مُنِتجةً لميولٍ أيديولوجية أو التزاماتٍ انفعالية، ولعل هذا هو السبب الذي يجعل السياسيين يخدعون الناس عن قصد ويخدعون أنفسهم عن غير قصد، ويمطروننا بوابلٍ من المصادرات على المطلوب التي تبدو دائمًا كفرضٍ عام يُقدِّمونه لكي يدعم حالةً جزئية، بينما الحالة الجزئية لا تعدو أن تكون شطرًا من ذلك الفرض العام، انظر إلى المثال التالي:

يجب ألا نسمح ببيع هذه القطع من مقتنيات توت عنخ آمون إلى أيِّ بلد أجنبي مهما كان الثمن؛ وذلك لأن آثار مصر العظيمة ليست للتصدير.

نحن أيضًا نأبى أن يُباع أيُّ شيء من الآثار المصرية مهما غلا الثمن، غير أن الحجة لم تقل لنا لماذا، وكل ما فعلته هو أن أعادت صياغة النتيجة (لا بيع لبلدٍ أجنبي) في المقدمة (لا تصدير). (٢)

ليس من المستغرَب أن تكون أحفلُ الحجج بالمصادرة على المطلوب هي الحجج الأيديولوجية والأخلاقية، ذلك أن هذه الحجج تكون موجهةً غالبًا إلى الشكاك، وأنها تتناول مجالات تفتقر بطبعها إلى قضايا وقائعية factual يلمسها الجميع؛ ومِن ثَمَّ تكون المصادرة


(١) عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي» الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨١ م، ص ٢٤٤، وانظر أيضًا الدور المنطقي الذي وقع فيه ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة، وسنعرِض له لاحقًا.
(٢) لاحظ أن «التصدير» ما هو إلا «البيع لبلدٍ أجنبي» وقد صيغ بعبارة أخرى! وكأن الحجة تقول ببساطة: لا بيع لأنه لا بيع! وهذا التبديل في الصياغة هو الذي يوهم بأن المقدمات تحمل شيئًا مختلفًا.

<<  <   >  >>