للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ابن جني فيئول الآية بأن المقصود بكلمة «عَلَّم» هو «أقدر» أي أن الله أعطى آدم القدرة على الكلام والتسمية وترك له الوضع والاصطلاح بالنسبة للتفاصيل. (١)

في محاورة «كراتيلوس» عرض أفلاطون منطق التأثيليين عرضًا مسهبًا، وبيَّن أنهم يعتقدون بوجود علاقة طبيعية (غير اصطلاحية) وضرورية بين الدال والمدلول، وأنهم بالتنقيب في الماضي عن أصل الكلمة، والكشف عن معناها الحقيقي إنما يصلون إلى حقيقة من حقائق الطبيعة، أو يميطون اللثام عن «ماهية» الشيء الذي تدل عليه الكلمة!

وشبيه بهذا ما يفعله بعض الباحثين عندما يُفسِّرون المعنى الاصطلاحي لمفهوم ما بمعناه اللغوي، مع احتمال ألا يكون المعنى الاصطلاحي مرتبطًا بالمعنى اللغوي ارتباطًا وثيقًا، وقد سبق لابن تيمية وابن قيم الجوزية أن اعترضا على استخدام أنصار المجاز للمنهج التاريخي في التمييز بين الحقيقة والمجاز رغم صعوبة التثبت من أصل اللفظ، وعدم وجود ما يفيد تاريخيًّا بسبق أحدهما على الآخر. (٢)

والحق أن التأثيل منهج مستخدم اعتمد عليه الكثير من اللغويين اعتمادًا كبيرًا، وبخاصة في القرن التاسع عشر، حيث أقيم على أسسٍ أمتن مما كان عليه قبل ذلك، وما زال مستخدمًا حتى الآن، ويُعد فرعًا معتبرًا من اللسانيات التاريخية (الدياكرونية)، وله دعائم منهجية خاصة تتوقف على كمية الشواهد المؤيدة ونوعها، إلا أنه بات واضحًا للتأثيليين في القرن التاسع عشر، وسلَّم به اللسانيون عامة في الوقت الحاضر، أن معظم كلمات المعجم في أي لغة لا يمكن أن تُعزَى إلى أصولها، وقد انتكس المنهج التاريخي بعد دعوة دي سوسير إلى الفصل بين الدراسات التزامنية (السينكرونية) والدراسات التاريخية (التعاقبية/ الدياكرونية)، وكرَّس مبدأ «اعتباطية العلامة اللغوية» arbitrariness of the sign على نحوٍ نهائي حاسم، ومنح الصدارة للسينكروني على الدياكروني، ولفت الانتباه إلى أهمية الدراسة الوصفية التي تقتصر على النظر إلى


(١) المرجع السابق، ص ٩٨، والحق أن ابن جني كان مترددًا بين الاصطلاح والتوقيف، وقد سجَّل تردده في غير موضع من كتابه «الخصائص»، يقول ابن جني في أحد هذه المواضع: «قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام، وحكينا وجوَّزنا فيها الأمرين جميعًا وكيف تصرَّفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها … » (ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الرابعة ١٩٩٩، الجزء الثاني ص ٣٠).
(٢) د. محمد محمد يونس علي: مدخل إلى اللسانيات، ص ٦٣.

<<  <   >  >>