للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفقًا لمقتضيات عبء البرهان المناسبة لنوع الحوار وللحالة المعْنِيَّة، فالآن إذا طرح الداعي حجةً دائريةً من الصنف الذي لا يتسنى فيه خفض شكوك المتلقي أو تدعيم المقدمات إلا بإثباتها من النتيجة، عندئذٍ تكون الحجة مصادرة على المطلوب، مثال ذلك هذا الحوار بين مؤمن وشاك:

- سيظل القرآن الكريم إلى يوم القيامة محفوظًا من كلِّ التصحيف والتحريف.

- ما الدليل على ذلك؟

- الدليل أن الله يقول في كتابه العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

من البين أن هذه الحجة تنطوي على مصادرة على المطلوب لأن المتلقي ليس لديه التزامٌ عقائدي بالقرآن، ومِن ثَمَّ فإن الدليل المطروح لا يضمن عنده أن يبقى القرآن محفوظًا بما فيه {إِنَّا نَحْنُ}.

أما عندما ترد هذه الحجة بحذافيرها في سياق تداولي آخر يجري بين داعٍ مؤمن ومُتلقٍّ مؤمن أيضًا ولديه التزام عقائدي بالقرآن، هنالك تضطلع الحجة بوظيفتها البرهانية وتكون حجة صائبة مائة بالمائة وبريئة من أية مصادرة على المطلوب، هكذا تتجلَّى أهمية أن يُتقن «الداعية» (١) منطق الجدل، وألا يغفل لحظةً هويةَ المخاطَب والتزاماته الاعتقادية المبدئية، وأن يتجنَّب تأييد المذهب «من داخله» (المصادرة على المطلوب)، ويلتزم دائمًا بالحجج التي تُؤيد المذهب «من خارجه».

ها نحن بإزاء حجة واحدة (من حيث الصورة السيمانتية) تُصادر في حالة ولا تصادر في أخرى؛ وذلك لاختلاف السياق التداولي، إنها ترد في سياق تداولي فتكون مغالطة ومصادرة على المطلوب، وترد في سياق تداولي آخر فتكون صحيحة لا شِيَةَ فيها، نَخْلُصُ من ذلك إلى أن المصادرة على المطلوب هي مغالطة تداولية بالدرجة الأساس. (٢)

في كتابه «نسق في المنطق» a system of logic ذهب جون ستيوارت مِل إلى أن جميع صور الاستدلال الاستنباطي ترتكب مغالطة «المصادرة على المطلوب»، فالقياس syllogism


(١) الداعية هنا، بحُكم التعريف، هو من يدعو «غير المؤمنين» إلى الإيمان، وعليه من ثم أن يُراعي «السياق التداولي» pragmatic context لخطابه، فلا يلجأ إلى تفسير المذهب بنفسه أو إثبات الماء بالماء، وهو شرطٌ لا يريد أن يفهمه كثيرٌ من الدُّعاة المخلصين.
(٢) Walton، Douglas N: ١٩٨٥، "Are Circular Arguments Necessarily Vicious? ".American Philosophical Quarterly ٢٢، ٢٦٣ - ٧٤.

<<  <   >  >>