للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما «البراجماطيقا» (التداولية) pragmatics فتُعرَّف بأنها العلاقة بين العلامات اللغوية ومستخدميها من بني البشر، فليست اللغة بأية حال شيئًا مُخزَّنًا بالمعاجم وكتب النحو، بل هي شيء في استخدامٍ متصل بين بني الإنسان، وللبشر طرائقهم في تداول اللغة فيما بينهم بما يتجاوز الدلالة المباشرة للعلامات ويتجاوز النحو وتركيب الجملة بحد ذاته، من أهم الموضوعات التي تندرج في مبحث التداولية: الأفعال الكلامية speech acts، والإضمار الحواري conversational implicature، التفرقة بين المعجم والموسوعة، وبين الاستعمال والذِّكر … إلخ.

في ضوء هذه التفرقة الأساسية بين الدلالة والتداولية يمكننا أن نمضي فنقول إن الحجج الدائرية ليست مغالطة بالضرورة، وإنما يتوقف الأمر على السياق الحواري للحجة وعلى الالتزامات الاعتقادية لدى المتحاورين، يمكننا بتعبير تقني أن نقول إن المصادرة على المطلوب أو الحجة الدائرية هي «مغالطة تداولية» pragmatic fallacy: أي قصور يتعين تقييمه بالنظر إلى الطريقة التي استخدمت بها الحجة في سياق حواري معين، لا تكون المصادرة على المطلوب مغالطة إلا إذا فشلت في تحقيق وظيفة مهمة من وظائف الحجة هي الوظيفة البرهانية؛ أي إذا لم تغير شيئًا في درجة الثقة التي يكِنُّها الخصمُ في النتيجة المعنِيَّة (المسألة المطلوب إثباتها)، الأمر هنا يتوقف على ما يعتقده متلقِّي الحجة وعلى درجة الثقة التي كان يُوليها للمسألة التي يتم البرهنة عليها، الأمر هنا يتفاوت بحسب الالتزامات الاعتقادية الأصلية للطرف المتلقي، فإذا كانت الحجة تكرر النتيجة في المقدمات (أي تثبت المسألة بذاتها أو تفترض ما يطلب الخصم إثباتَه) متوجهة بذلك إلى خصم لا يعتقد أصلًا في هذه النتيجة ولا يلتزم بها، فإنها عندئذٍ لا تؤدي وظيفتها البرهانية المنوطة بها، وهي بهذا المعنى وفي هذا السياق تعتبر مغالطة.

أما عندما تُقدَّم نفس الحجة (من الوجهة السيمانتية/ هُوِيَّة سيمانتية) إلى طرفٍ متلقٍّ يعتقد في النتيجة ويلتزم بها اعتقاديًّا، فإنها في هذا السياق التداولي المختلف لا تعتبر مغالطة.

ولمزيد من التبيان نقول: إنَّ من أهم وظائف الحجة «الوظيفة البرهانية» probative function، أي وظيفة إزالة الشك (أو خفضه)، والتي تفترض الإطار التالي للحوار: ثمة طرف «المُتلقِّي» لديه شكوك أو تساؤلات تتصل بنتيجة معينة، وثمة طرف آخر «صاحب الحجة أو الداعي» مهمته في الحوار هي إثبات هذه النتيجة إثباتًا يُقنع المتلقي ويرضيه

<<  <   >  >>