للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن يُستدل على وجود المرض من حقيقة أن الفعل قد ارتُكب لا أكثر.» (١) لا يعدو هذا التفسير أن يقول: إن الناس تنغمس في العنف والسلوك المضاد للمجتمع؛ لأنهم أناسٌ ينغمسون في العنف والسلوك المضاد للمجتمع! كذلك الشأن في تفسير التحليل النفسي للانتحار والتدمير (تدمير النفس أو الغير) بأنه ناجم عما يسميه غريزة «الموت» thanatos وهي نزوعٌ بالإنسان إلى العودة إلى الحالة الجمادية، نعم هناك انتحار وهناك تدمير وهناك سلوك مضاد للمجتمع … إلخ، ولكن على التفسير العلمي أن يقدم شيئًا أكثر من ترجيع الصَّدى وتحصيل الحاصل.

في حديثه عن أرسطو في كتابه «مراجعات في الآداب والفنون» يقدم العقاد لمحةً ذكيةً في نقد «الأخلاق النيقوماخية» فيقول: إنَّ كل فضيلة عند أرسطو هي وسط بين رذيلتين، وكأن الاختلاف بين الفضائل والرذائل في تفسيره لا يكون إلا من قبيل الاختلاف بينها في الدرجات والزيادة والنقصان، وهو رأي منتقَد عابَهُ عليه كانت Kant بحق فقال: «إن الاختلاف بين الفضيلة والرذيلة لا يمكن أن يكون مسألة درجات بل لا بُدَّ أن يعتمد على معادنها الطبيعية أو قوانينها … إن تفسير أرسطو أولًا لا يُبين لنا الحدَّ الذي يجب على كل منهما أن يقف عنده، وثانيًا هو في الواقع «تحصيل حاصل» إذ إن أرسطو يقول «إن الإنسان يجب عليه أن يجتنب الخطأ بالزيادة عن الحد والخطأ بالنقص منه.» (دون أن يبين ما عساه أن يكون ذلك الحد!) فكأن النتيجة أن الواجب هو أن لا تفعل أكثر ولا أقل من الواجب!» وهذا هو تحصيل الحاصل كما يقول كانت؛ لأن تعريفنا الواجب بأنه شيء لا يزيد ولا ينقص عن الواجب هو من اللغو الذي يشبه قول القائل:

كأننا والماءُ مِنْ حَولِنا … قومٌ جلوسٌ حَولهم ماءُ (٢)

والحق أن كثيرًا من الفكر الأخلاقي الرائج لا يقول أكثر من ذلك! «افعل ما فيه المصلحة» (وما المصلحة؟!) «لا تفعل ما فيه مفسدة» (وما المفسدة؟!) «كن وسطيًّا» (بين ماذا؟!) وقلَّما يدرك المتحدث المخلص أنه في حقيقة الأمر لم يزد مستمعيه علمًا بأي شيء،


(١) Wootton، B.، Social Science and Social Pathology، London، George Allen & Unwin، ١٩٥٩، p. ٢٣٣.
(٢) عباس محمود العقاد: مراجعات في الآداب والفنون، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ١٩٨٣، ص ٦٥.

<<  <   >  >>