وأنه في حقيقة الأمر لا يزيدهم إلا رضا ذاتيًّا زائفًا، وأنه لا يغادرهم إلا وقد زاد طبعهم جفاءً وزادَ أرواحَهم غِلظة!
•••
وبعد، فمن شأن الحجة السديدة لإثبات دعوى معينة أن تقدم دليلًا مستقلًّا لتبرير الاعتقاد بهذه الدعوى، وأن تتجنب الاعتماد على الدعوى، أو شطرٍ من الدعوى، لإثبات ذاتها، وما يكون لعاقلٍ أن يفترض، كدليل أو بينة، ذات الشيء الذي يحاول أن يُثبته، غير أننا كثيرًا ما يجرفنا الانفعال الأيديولوجي والالتزام بصدق مذهبنا السياسي أو الأخلاقي ويَعْصِب أعيننا عن رؤية أننا، في حقيقة الأمر، نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عليه؛ ولذلك تجد المصادرة على المطلوب مرتعًا خصيبًا لها في مثل هذه المجالات، وحيثما فرغت ساحةٌ من البراهين الصلبة والحجج الوقائعية المستقيمة تم استدعاء الحجج الدائرية لتَوَلِّي الأَزِمة واتخاذ اللازم، ولو أن هناك براهين مقنعة على الأيديولوجيات، المتكثرة تَكَثُّر الأهواء والمصالح، لكان عسيرًا على ذوي العقول أن يختلفوا حولها، ومن البين المتواتر أنه كلما توافر للناس حججٌ أكثر قبولًا وصلابة زاد انصرافهم عن الحجج الدائرية لتبرير دعواهم.
ربما تخدع المصادرة على المطلوب قائلَها أكثر مما تخدع متلقيها؛ لأنَّ المرء حين يكون مُشْربًا منذ البداية بموقفٍ ما فإن من السهل أن يتراءى له كلُّ مكافئٍ أو صنوٍ لهذا الموقف كأنه برهانٌ عليه، ثمة فرق بين أن تعتنق رأيًا وبين أن تكون قادرًا على تبرير هذا الرأي، وعلى محبي الحكمة أن يتعلَّموا من درس الفلسفة أن هناك فرقًا بين الموقف نفسه وبين الحجج التي يستند إليها الموقف، ومن لم يتعلم هذا التمييز سيكون عُرضةً دائمًا للانخداع بمغالطة «المصادرة على المطلوب».