للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

روي عنه بمثله) انتهى.

الرابع: فيه استحباب حمل السجادة للصلاة حتى في المساجد، لا سيما في زماننا؛ لما يشاهد من التهاون في أمر الطهارة في سجاجيد المساجد وحصرها، بل لو قيل بفرضية حملها غير بعيد.

الخامس: فيه جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر، وأبو ذر، وزيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنه، وزعم الكرماني أن فيه أن الصلاة لا تبطل بمحاذاة المرأة، وتبعه ابن حجر، ورده إمام الشَّارحين، فقال: قصدهما بذلك الغمز في مذهب الحنفية في أن محاذاة المرأة المصلي مفسدة لصلاة الرجل، ولكن هيهات لما قالا؛ لأنَّ المحاذاة المفسدة عندهم أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في الصلاة أداء وتحريمة وغير ذلك، وهم أيضًا يقولون: إن محاذاة المرأة المذكورة في هذا الحديث غير مفسدة، فحينئذٍ إطلاقهما الحكم فيه غير صحيح، وهو من ضربان عرق العصبية) انتهى.

قلت: ولا شك في ذلك، فإن عرق العصبية لا يفتر عنهما خصوصًا ابن حجر، وكلاهما غير مصيب، فأين لهما من الاعتراض على مذهب الحنفية الذي هو الحق الصواب وما عداه خطأ؟! لا سيما أنَّهما ليس لهما معرفة في مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين حتى قالا هذا القول، فإن محاذاة المرأة إنَّما يكون مفسدًا بشروط؛ منها: أن تكون الصلاة واحدة أداء وتحريمة، وغير ذلك، كما هو مقرر في كتب الفروع، والمرأة التي في هذا الحديث ليست كذلك، بل هي ليست بطاهرة، فهذا كلام من لم يشم شيئًا من العلم، والولد الصغير لا يستنبط هذا الاستنباط، ولكن مرادهم القدح، والعناد، والتعصب، والتعنت، وغير ذلك من الأمور المخالفة للشرع، ألم يعلموا أن الإمام الأعظم حين استنبط الأحكام كان إمامهم محمد بن إدريس منيًا في ظهر أبيه، ثم بعد أن نشأ وقرأ على الإمام محمد بن الحسن قال: الناس عيال للإمام الأعظم؟ وقال: من أراد التفقه؛ فعليه بكتب محمد بن الحسن، فهذا أدب إمامهما، وكان عليهما التأدب أيضًا؛ فإن إمامهما قد تأدب مع إمامنا، وصح أنه صلى الفجر عنده ولم يقنت، وهذا يدل على أنه مقلد لا مطلق، وسيأتي بقية الكلام إن شاء الله تعالى.

(٢٠) [باب الصلاة على الحصير]

هذا (باب) بيان حكم (الصلاة على الحَصِير)؛ بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، وفي «المحكم» : أنها سفيفة تصنع من بردي وأَسل، سميت بذلك؛ لأنَّها تفرش على وجه الأرض، وكذلك يسمى وجه الأرض حصيرًا، والسَّفيْفة؛ بفتح السين المهملة، وبالفاءين، بينهما تحتية ساكنة: شيء يعمل من الخوص؛ كالزنبيل، والأَسل؛ بفتح الهمزة، والسين المهملة، آخره لام: نبات له أغصان كثيرة دقاق لا ورق لها، وفي «الجمهرة» : (الحصير عربي، سمي حصيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض)، وقال الجوهري: (الحصير: الباريَّة)، كذا في «عمدة القاري».

ووجه مناسبة هذا الباب بالباب الذي قبله من حيث إن كلًّا منهما ذكر في حكم الصلاة، ففي الأول: السجود على الخمرة؛ وهي السجادة التي توضع على الأرض، وهنا السجود على الحصير التي توضع أيضًا على الأرض، وقدمنا تمام الكلام في باب (عقد الإزار على القفا)؛ فافهم.

(وصلى جابر) ولأبي ذر وأبي الوقت: (وصلى جابر بن عبد الله) : هو الأنصاري رضي الله عنه (وأبو سعيد) : هو سعد بن مالك (الخدري) رضي الله عنه (في السفينة) : وهي الفلك؛ لأنَّها تسفن وجه الماء؛ يعني: تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سفائن وسفن وسفين (قيامًا) : جمع قائم، وأراد به التثنية؛ أي: قائمين، وهو نصب على الحال، وفي بعض النسخ: (قائمًا)؛ بالإفراد بتأويل كل منهما قائمًا، وهذا التعليق وصله أبو بكر ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن أبي عتبة مولى أنس، قال: (سافرت مع أبي الدرداء، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله -وأناس قد سماهم، قال-: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائمًا، ونصلي خلفه قيامًا، ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، يقال: أرسى السفينة؛ بالسين المهملة، وأرفى؛ بالفاء: إذا وقف بها على الشط، والبخاري اقتصر هنا على ذكر الاثنين وهما جابر وأبو سعيد رضي الله عنهما، كذا قاله إمام الشَّارحين.

ثم قال: ووجه مناسبة إدخال هذا الأثر في هذا الباب هو أنَّ هذا الباب في (الصلاة على الحصير)، وفي الباب الذي قبله: (وكان يصلي على الخمرة)، وكل واحد من الحصير والخمرة يعمل من سعف النخل، ويسمى: سجادة، والسفينة أيضًا مثل السجادة على وجه الماء، فكما أن المصلي يسجد على الخمرة والحصير دون الأرض، فكذلك الذي يصلي في السفينة يسجد على غير الأرض) انتهى.

وزعم ابن المنير في وجه المناسبة بينهما هو أنَّهما اشتركا في الصلاة على غير الأرض؛ لئلا يتخيل أن مباشرة المصلي الأرض شرط من قوله عليه السَّلام لمعاذ: «عفر وجهك في التراب» انتهى.

ورده إمام الشَّارحين: بأنه لا يخلو عن حزازة، والوجه القوي ما ذكرناه، انتهى.

قلت: ولا مناسبة لحديث معاذ هنا؛ لأنَّه ورد في (التيمم).

وقوله: (لئلا يتخيل...) إلخ: ممنوع، فإن الصلاة جائزة على الأرض حقيقةً وحكمًا، فالمصلي في السفينة مصلٍّ على الأرض حكمًا، فلا حاجة إلى هذا الكلام؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (ويستنبط من هذا الأثر: هو أن الصلاة في السفينة إنَّما تجوز إذا كان المصلي قائمًا، وقال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين: تجوز الصلاة فيها قائمًا وقاعدًا، بعذر وبغير عذر، وبه قال الحسن بن مالك، وأبو قلابة، وطاووس، روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة، وروى أيضًا عن مجاهد: أن جنادة بن أبي أمية قال: كنا نغزو معه، لكنا نصلي في السفينة قعودًا، ولأن الغالب فيها دوران الرأس؛ فصار كالمتحقق، والأولى أن يخرج منها إن استطاع الخروج منها، وقال الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تجوز الصلاة في السفينة قاعدًا إلا من عذر؛ لأنَّ القيام ركن، فلا يترك إلا من عذر، والخلاف في غير المربوطة، فلو كانت مربوطة في لجة البحر؛ لم تجز الصلاة قاعدًا إجماعًا، وقيل: تجوز عنده في حالتي الإجراء والإرساء، ويلزمه التوجه للقبلة عند الاستفتاح، وكلما دارت السفينة؛ لأنَّها في حقه كالبيت حتى لا يتطوع فيها مومئًا مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة) انتهى.

قلت: فإن راكب الدابة يصلي مومئًا على الدابة إلى أي جهة توجهت به دابته، وهذا إذا كان خارج المصر عند الإمام الأعظم والإمام محمد بن الحسن، وقال الإمام أبو يوسف: يجوز أيضًا إذا كان في المصر، وهذا الأثر المذكور عن جابر وأبي سعيد يدل لما قاله الإمام الأعظم؛ لأنَّ معناه: أن الصلاة تجوز في السفينة قائمًا وقاعدًا من غير عذر؛ لأنَّهما صليا (١) فيها وهي راسية؛ لقوله: (ولو شئنا؛ لأرفينا)؛ أي: لأرسينا، فإذا كانت كذلك؛ فلا تجوز الصلاة قاعدًا، فلهذا صلى إمامهم قائمًا، وهذا ظاهر؛ فافهم.


(١) في الأصل: (صلا)، والمثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>