للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

حصير ونحوه، فالحديث محمول على وجود الحائل.

وردَّ بأنَّ الأصل عدم الحائل لغة وعرفًا وشرعًا، وعادتهم الصلاة على الأرض بدون حائل؛ لأنَّه إذ ذاك لم يكن طنافس ولا سجاجيد.

واعترض بأنَّها شهادة نفي، وهي غير مقبولة، على أنَّه قد ثبت في «الصحيحين» عن أنس: (أنَّه عليه السَّلام صلى على حصير في دارهم).

ورُدَّ بأنَّ شهادة النفي غير مقبولة؛ إذا لم يكن النفي متواترًا، أما هنا؛ فقد تواترت الأخبار عنهم أنَّه لم يكن حائل، وحديث أنس مخصوص بدارهم، والدار غير مربض الغنم، فلا يردُّ، فافهم.

(ثم سمعته) أي: قال أبو التيَّاح: سمعت أنس بن مالك، فيكون الضمير عائدًا على أنس، وزعم ابن حجر أنَّ الضمير فيه يعود على أبي التياح، ويكون القائل: (ثم سمعته) هو شعبة، انتهى.

قلت: وقد ردَّه إمام الشَّارحين، ثم قال: (القائل هو أبو التيَّاح، سمع من أنس أولًا بالإطلاق، ثم سمع بقيد... إلى آخر كلامه)، وقد أنصف العجلوني ههنا؛ حيث ردَّ كلام ابن حجر فقال: (هو خلاف الظاهر) انتهى.

قلت: وهذا هو ظاهر اللفظ، فإنَّ ابن حجر قد صدر منه ذلك من غير تأمل، فإنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور كما لا يخفى، وأقربه أنس، والقائل أبو التياح؛ لأنَّه تابعي؛ فافهم، قال إمام الشَّارحين: (يعني: أبو التياح يقول: ثمَّ سمعت أنسًا).

(بعدُ) : بالبناء على الضمَّ؛ لنيَّة معنى الإضافة إليه؛ أي: بعد القول الأوَّل وهو: (كان يصلي في مرابض الغنم)، (يقول) أي: ثانيًا (كان) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يُصلي في مرابِض الغنم قبل أن يُبنى) بضمِّ التحتية أو بفتحها على البناء للمفعول أو للفاعل (المسجد)؛ أي: النبوي، فأشار بذلك إلى قوله أوَّلًا: مطلق، وقوله ثانيًا: مقيَّد، فالحكم أنَّهما إذا وردا سواء يحمل المطلق على المقيد، عملًا بالدليلين، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: يعني: أنَّه يفهم من هذه الزيادة، أنَّه عليه السَّلام لم يصلِّ في مرابض الغنم بعد بناء المسجد، فيكون ذلك المطلق مقيدًا بهذا؛ للقاعدة الأصولية أنَّ المطلق يحمل على المقيد تقدم أو تأخر؛ عملًا بالدليلين؛ فليحفظ.

وزعم ابن حزم أنَّ هذا الحديث منسوخ؛ لأنَّ فيه: (أنَّ ذلك كان قبل أن يبنى المسجد) فاقتضى أنَّه كان في أول الهجرة.

ورُدَّ عليه بما صحَّ عن عائشة: (أنَّه عليه السَّلام أمرهم ببناء المساجد في الدور، وأن تُطيب وتُنظف)، رواه أبو داود، وأحمد وغيرهما، وصححه ابن خزيمة، ولأبي داود نحوه من حديث سمرة، وزاد: (وأن يطهرها)، قال: وهذا بعد بناء المسجد.

وما ادعاه من النسخ يقتضي الجواز، ثم المنع.

ويرُدَّ هذا: إذنه عليه السَّلام في الصلاة في مرابض الغنم، يدل عليه ما في «صحيح ابن حبان» : عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن لم تجدوا إلا مرابض الغنم، وأعطان الإبل؛ فصلوا في مرابض الغنم» قال الترمذي والطوسي: حديث حسن صحيح، وعن أبي زرعة مرفوعًا: «الغنم من دواب الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها»، ذكره النيسابوري في «تاريخه»، وتمامه فيما تقدم في باب: (أبوال الإبل والدواب والغنم).

وتجوز الصلاة أيضًا في مراح البقر؛ لما في مسند عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن رجل حدثه عن ابن المغفل: (نهى النبيُّ عليه السَّلام أن يُصلَّى في معاطن الإبل، وأمر أن يُصلَّى في مراح الغنم والبقر) انتهى.

فإن قلت: ويعارضه ما في «مسند أحمد» من حديث ابن عمر؛ (أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ كان يصلي في مرابد الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر).

قلت: لا يعارضه؛ لأنَّ هذا الحديث سنده ضعيف كما قال الحفَّاظ، ولئن صح؛ فالأول أمر وهو قول، وهذا فعل، والقول مقدم على الفعل، كما قاله المحققون.

فإن قلت: في سند الأول مجهول.

قلت: قد روي بطرق مختلفة عن غير مجهول، وبها قد انتفى ذلك؛ فافهم.

قال ابن بطال: (وحديث الباب حجة على الشافعي؛ لأنَّ الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أنَّ مرابطها لا تسلم من البعر والبول، فدلَّ على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر، وفيه المطابقة للترجمة) انتهى.

واعترضه العجلوني؛ تعصبًا لمذهبه بأنَّ الأصل في مرابضها الطهارة في أمكنتها وإن كان الغالب عدمها، وإذا تعارضا؛ قدم الأصل، مع أنَّه لم يدلَّ الدليل على عدم الحائل، فلعله كان يفرش عليها شيئًا ثم يصلي فيه، انتهى.

قلت: وهو ممنوع، فإنَّ الأصل في مرابضها ألا يخلو عن أبعارها وأبوالها، وقوله: (وإن كان الغالب عدمها) تناقض ظاهر وتسليم بأنَّ أمكنتها لا تسلم عن أبعارها، وليس في ذلك تعارض؛ لأنَّ الأدلة تضافرت (١) على إباحة الصلاة في مرابضها، ولم يوجد دليل على الحظر حتى يحصل التعارض، وقوله: (مع أنَّه لم يدل...) إلخ ممنوع؛ فإنَّ الدليل هو أنَّ الأصل عدم الحائل لغة وعرفًا، وقوله: (فلعله كان يفرش) ممنوع؛ لأنَّه لم يدلَّ دليل على أنَّه كان يفرش في مرابضها شيئًا يصلي عليه، مع أنَّ الأصل عدمه، وتمامه فيما قدمناه، على أنَّه روى أبو داود مرفوعًا: «صلوا في مواطن الغنم؛ فإنَّها بركة» وروى البيهقي: «إنَّها من دواب الجنَّة»، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يحب الصلاة في مرابضها، وهو دليل على جواز الصلاة فيها، وهو مذهب الجمهور، لكن مع الكراهة عند إمامنا الأعظم.

وزعم الشافعية أنَّها لا تصح في معاطن الغنم، والحديث حجة عليهم، كما قدمناه؛ فافهم.

(٥٠) [باب الصلاة في مواضع الإبل]

هذا (باب) حكم (الصلاة في مواضع)؛ بالجمع، وفي بعض الأصول: (موضع)؛ بالإفراد (الإبل) هي اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهي مؤنثة؛ لأنَّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين؛ فالتأنيث لازم لها، وقد تُسكَّن الباء؛ للتخفيف، والجمع: آبال.

قال إمام الشَّارحين: ثم إنَّ البخاري إن أراد من مواضع الإبل معاطنها؛ فالصلاة فيها مكروهة عند قوم خلافًا لآخرين، وإن أراد بها أعمَّ من ذلك؛ فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف، وعلى كلا التقديرين لم يذكر في الباب حديثًا يدلُّ على أحد الفصلين، وإنَّما ذكر فيه الصلاة إلى البعير، وهو لا يطابق الترجمة، انتهى.


(١) في الأصل: (تظافرت).

<<  <   >  >>