للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

عاطفة ينافي أنَّها تفصيلية محضة؛ لأنَّ التعقيب من لوازم العطف، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما هو مقرر في محله، فما زعمه ابن حجر ليس بشيء؛ فافهم.

وزعم ابن حجر (أنَّ من فوائد هذا السياق الإتيان بـ (ثم) فيه الدالة على ترتيب ما ذكر فيه من صفة الغسل) انتهى.

قلت: أشار فيه بـ (ثم) إلى أنَّ الوضوء لا يفعل إلا بعد غسل اليدين، وإزالة النجاسة من مني ونحوه من يديه؛ ليطمئن بزوالها قبل أن تشيع على جسده، لا أنَّ نفس غسل الجسد يلزم ترتيبه كما زعمه؛ لأنَّ جميع أعضاء البدن في الغسل متحدة حكمًا وعرفًا حتى قال صاحب «القنية» : (لو وضع الجنب إحدى رجليه على الأخرى في الغسل؛ تطهر السفلى بماء العليا)، فترجح الاتحاد الحكمي بالعرفي، بخلاف ما لو نقل البلة في الغسل من عضو بدن إلى عضو بدن آخر؛ حيث لا يجوز، كما لو نقل البلة في الوضوء من إحدى اليدين أو الرجلين إلى الآخر؛ فإنَّه لا يجوز أيضًا؛ لأنَّ أعضاء الوضوء مختلفة حقيقةً وعرفًا، وتمامه في «القُهْستاني» كذا في «منهل الطلاب»، فما زعمه ابن حجر ليس بشيء، كما لا يخفى.

(٩) [باب: هل يُدخل الجنب يده في الإناء]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (هل يُدخل)؛ بضمِّ التحتية (الجنب يده في الإناء) أي: الذي فيه الماء المطلق لأجل الاغتسال (قبل أن يغسلها)؛ أي: اليد بماء خارج الإناء؛ لترتفع جنابتها، (إذا لم يكن على يده قَذَر)؛ بالقاف والذال المفتوحتين؛ أي: شيء مستقذر ومستكره، وهو النجس؛ كالمني ونحوه (غير الجنابة)؛ أي: المعنوية، أمَّا الحسية التي هي المني، والبول، وغيرهما؛ فإنَّها يجب غسلها من الجنب وغيره قبل أن يدخلها في الإناء حتى لا ينجس الماء بذلك، وقد أشار المؤلف في هذه الترجمة إلى شيئين؛ أحدهما: نجاسة المني، والثاني: نجاسة الماء المستعمل، فإنَّه استنبط من الأثرين المذكورين والأحاديث الأربعة المذكورة هذا الحكم، وظاهره أنَّ هذا هو مذهب المؤلف رحمه الله تعالى.

وقال صاحب «عمدة القاري» : (يشعر قوله: «غير الجنابة» بأن الجنابة نجس وليس كذلك؛ لأنَّ المؤمن لا ينجس، كما ثبت ذلك في «الصحيح») انتهى؛ يعني: أنَّ يد الجنب إذا كانت نظيفة من المني وغيره؛ يجوز له إدخال الإناء لأجل الاغتراف قبل أن يغسلها؛ لأنَّه ليس شيء من أعضائه نجسًا بسبب كونه جنبًا؛ لقوله عليه السلام: «سبحان الله! إنَّ المؤمن لا ينجس».

وزعم ابن حجر أنَّ قوله: (غير الجنابة)؛ أي: حكمها؛ لأنَّ أثرها مختلف فيه فدخل في قوله: (قذر).

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: لم تدخل الجنابة في القذر أصلًا؛ لأنَّها أمر معنوي لا يوصف بالقذر حقيقة، فما مراد هذا القائل من قوله: أي حكمها؟ فإن كان الاغتسال؛ فلا دخل له ههنا، وإن كان النجاسة؛ فقد قلنا: إنَّ المؤمن لا ينجس، وكذا إن كان مراده من قوله: لأنَّ أثرها؛ أي: المني، فهو طاهر في زعمه) انتهى.

وزعم العجلوني فقال: وصف الجنابة بالنجاسة الحكمية وبالقذر مجازًا لا مانع منه، ولم يدَّعِ ابن حجر الحقيقة؛ ليردها، على أنَّه لا مانع أيضًا من جعل الاستثناء منقطعًا، وأثر الجنابة ما ينشأ عنها من كون مائها المستعمل في رفعها غير طهور أو نجس، فلا يدخل الجنب يده في الماء القليل؛ لئلا ينجس، وهذا المعنى صحيح، وإن أريد بالأثر المني؛ فكذلك؛ لأنَّه وإن كان طاهرًا عند الشافعي، لكنه فيه خلاف، فقيل بنجاسته، فلعل البخاري يرى ذلك، أو لأنَّه لا يلزم من طهارته أنَّه لا يغسل؛ لاستقذاره، فلذا قال: (غير الجنابة)، والشارح يشرح على مقتضى اللفظ الذي يشرحه، ثم يبين مذهبه إن شاء، سواء وافق ما تقتضيه العبارة أو لا؛ فتأمل.

قلت: وهذا ممنوع، فلذا أَمر بالتأمل، فإنَّ قوله: (وصف الجنابة...) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لا يجوز حمل الكلام على المجاز إلا عند تعذُّر الحقيقة، وهنا هو ممكن؛ لأنَّ المراد بالجنابة المعنوية وهي نجاسة حكمية حقيقة، وأنَّ المراد بالقذر المني، وهو نجاسة حقيقية حقيقة، فإذا كانا كذلك؛ لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز، وهذا دأبهم يحملون الكلام على المجاز وهو لا يجوز إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا هو المانع.

وقوله: (ولم يدع ابن حجر...) إلخ ممنوع؛ فإنَّه قد ادَّعاها بدليل أنَّه فسرها بالحكم، وأدخلها تحت القذر.

ولا ريب أنَّ زعمه الحقيقة، وقوله: (على أنَّه لا مانع...) إلخ ممنوع؛ لأنَّه إذا أريد بالجنابة أثرها- وهو المني-؛ فلا ريب أنَّ الاستثناء يكون متصلًا، وإذا أمكن أن يكون متصلًا؛ لا يجوز العدول عنه إلى المنقطع.

وقوله: (وأثر الجنابة...) إلخ هذا يؤيد كون الاستثناء متصلًا؛ لأنَّ قوله: (وأثر الجنابة...) إلخ دليل على أنَّ أثر الجنابة نجس حقيقة؛ لأنَّ قوله: (غير طهور) هو النجس من حيث إنَّه لا يجوز الوضوء والغسل به.

وقوله: (أو نجس) هو الحقيقي، على أنَّه لا دخل لهذا الكلام هنا؛ لأنَّ المراد بالأثر السبب، وهو المني، وما ينشأ عن الجنابة من مائها إنَّما هو أثر الغسل لا أثر الجنابة، ألا ترى إذا سئلت عن هذا الماء ما تجيب؟ ولا يسع أحدًا أن يجيب إلا بماء الاغتسال، كما هو ظاهر، ووصفه بأنَّه غير طهور أو نجس أمرٌ آخر لا دخل له هنا؛ لأنَّ المراد أنَّ يد الجنب إذا كانت نظيفة؛ جاز له إدخالها الإناء، ولا يوصف بالاستعمال، كما قررناه.

وقوله: (فلا يدخل...) إلخ هو رد لكلامه الأول، فقد اعترف بما منع.

وقوله: (وإن أريد بالأثر...) إلخ ظاهر، إلا أنَّ قوله: (لأنَّه وإن كان...) إلخ ممنوع؛ لأنَّ كون المني طاهرًا في زعمه يمنع تفسير الجنابة بالحكم وإدخالها تحت القذر، وما هذا إلا تناقض من ابن حجر، فإنَّه قد خبط وخلط.

وقوله: (فقيل بنجاسته...) إلخ هذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين.

وقوله: (فلعل...) إلخ ظاهر؛ فإنَّه قد علم ذلك من الترجمة والاستدلال أنَّ مذهب المؤلف نجاسة المني، كما هو قول الجمهور.

وقوله: (أو لأنَّه لا يلزم...) إلخ ممنوع، فإنَّه إذا وجب غسل الشيء لما أصابه يلزم أن يكون الذي أصابه نجسًا؛ لأنَّه لو لم يصبه لم يجب غسله، ألا ترى أنَّ البول يجب غسله؛ لأنَّه نجس، والبزاق لا يجب غسله؛ لأنَّه طاهر، فالغسل الواجب المراد به هنا لا يجب إلا للنجس، فيلزم القول بطهارته أنَّه لا يجب غسله، مع أنَّه صرح في الترجمة بأنَّه يغسل المني؛ لأنَّه نجس؛ لأنَّ المراد بالجنابة: الأثر، كما فسره، وما هذا إلا تناقض ظاهر.

وقوله: (والشارح يشرح...) إلخ ممنوع؛ فإنَّ الواجب على الشارح أن يبين الحق الصحيح، لا يقتصر على بيان ما ذهب إليه إمامه ترويجًا له، على أنَّ مقتضى اللفظ يخالف ما فسره ابن حجر، كما علمت، وهو غير موافق لما ذهب إليه إمامه فقد خبط وخلط؛ لأنَّ كلامه لا يوافق ما ذهب إليه المؤلف، ولا ما ذهب إليه إمامه، وكان مراده موافقة مذهبه، لكنه اختلط عليه الشرح، فلا يدري ما تكلم، وهذا من هفواته، كما بينه في «إيضاح المرام».

(وأدخل) هذه الواو تسمى واو الاستفتاح يستفتح بها كلامه، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» (ابن عمر) : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب (والبَرَاء)؛ بفتح الباء الموحدة، والراء المخففة (بن عازب) رضي الله تعالى عنهم (يداه)؛ بالتثنية، وفي رواية: (يده)؛ بالإفراد؛ أي: أدخل كل واحد منهما يده (في الطَّهور)؛ بفتح الطاء: وهو الماء الذي يتطهر به في الوضوء والاغتسال، (ولم يغسلاها)؛ بالتثنية أيضًا، وفي رواية: (ولم يغسلها)؛ بالإفراد؛ أي: اليد كل واحد منهما، (ثم توضَّأا)؛ بالتثنية أيضًا، وفي رواية بالإفراد؛ أي: كل واحد منهما.

قال في «عمدة القاري» : وهذا الأثر غير مطابق للترجمة على الكمال؛ لأنَّ الترجمة مقيَّدة، والأثر مطلق، أمَّا أثر ابن عمر رضي الله عنهما؛ فقد وصله سَعِيْد بن منصور بمعناه، وأمَّا أثر البَرَاء؛ فقد وصله ابن أبي شيبة بلفظ: (أنَّه أدخل يده في المطهرة قبل أن يغسلها).

فإن قلت: روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من اغترف من ماء وهو جنب؛ فما بقي نجس)، وهذا يعارض ما ذكره البخاري، قلت: حملوا هذا على ما إذا كان بيده قذر توفيقًا بين الأثرين انتهى.

قلت: والقذر كالمني، والبول، وغيرهما.

وزعم ابن حجر:

<<  <   >  >>