للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

رأيتني على هذه الحالة؛ فلا تُسلِّم عليَّ، فإنَّك إن تفعل؛ فلا أردُّ عليك»، وعند الطَّبراني من حديث جابر بن سمرة بسند فيه ضعف قال: (سلَّمت على النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يَبول، فلم يردَّ عليَّ، ثم دخل إلى بيته، فتوضأ، ثمَّ خرج، فقال: «وعليكَ السَّلام»)، وعند الحاكم من حديث المهاجر بن قنفذ قال: (أتيت النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يتوضأ فسلَّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ، فلمَّا فرغ من وضوئه؛ قال: «إنَّه لم يمنعني من [أن] أردَّ عليك إلا أنِّي كنت على غير وضوء»)، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا، ولفظه: «إلا أنِّي كرهت أن أذكر الله لا على طُهرٍ، أو على طهارة»، وأخرجه النَّسائي، وابن ماجه، وأحمد، والبيهقي، وابن حبان، والطَّبراني، وزاد: (فقمت مهمومًا، فدَعا بوضوء، فتوضأ، وردَّ عليَّ، وقال: «إنِّي كرهت أن أذكر الله على غير وضوء»)، كذا في «عمدة القاري»، ثُمَّ قال: (ووجه مطابقة هذا الحديث للتَّرجمة: هو أنَّه عليه السَّلام لما تيمم في الحضر؛ ليردَّ السَّلام وكان له أن يردَّه عليه قبل تيممه؛ دلَّ ذلك على أنَّه إذا خشي فوات الوقت في الصَّلاة في الحضر؛ أنَّ له التيمم، بل ذلك آكد؛ لأنَّه لا يجوز الصَّلاة بغير وضوء، ولا تيمم، ويجوز السَّلام بغيره) انتهى.

قلتُ: وفي الحديث دليل على جواز التيمم في المصر لصلاة الكسوف، والخسوف، والسُّنن الرَّواتب؛ وهي التي بعد الظهر، والمغرب، والعشاء، والجمعة، وكذا ما قبل الظهر والجمعة، فإنَّه إذا أخرها بحيث لو توضأ؛ فات وقتها؛ فله التيمم لها، وكذلك المُستحبات من الصَّلوات التي يخاف فوتها لو اشتغل بالوضوء؛ كصلاة الضحى، فإنَّه إذا خاف خروج وقتها بزوال الشمس؛ يتيمم لها، وكذلك صلاة الليل إذا خاف طلوع الفجر، وكذلك سنة العشاء القبلية والبعدية، وسُنة العصر القَبلية، وغيرها، فإنَّه إذا ضاق وقتها؛ يجوز التيمم لها.

قال في «البحر» : (وكذلك كلُّ ما لا تشترط له الطهارة، فيجوز التيمم لنوم وسلام وردُّه وإن لم تَجز (١) الصَّلاة به).

وفي «المُبتغى» : (وجاز لدخول مسجدٍ مع وجود الماءِ، وللنوم فيه).

وفي «شرح المنية» : (يجوز تيممه لمسِّ مُصحف).

وفي «القهستاني» : المختار جواز التيمم مع وجود الماء لسجدة التلاوة، وكذلك لقراءة القرآن، أو كتابته، أو تعليمه، وكذلك لزيارة القبور، وعيادة المرضى، ودفن الموتى، والأذان، والإقامة، فإنَّه يجوز التيمم لهذه المذكورات مع وجود الماء، لكنَّ التيمم للتسعة الأخيرة لا تجوز الصَّلاة به، كما في «مِعراج الدِّراية» عن «الخبازية» وما قبلها اختلف فيها، فصحح جماعة جواز الصَّلاة به، وصحح آخرون عدم الجواز، والمعتمد الجواز، وفيه تفصيل بيَّنته في شرحي «منهل الطلاب»، وكذلك سجدة الشكر.

وأمَّا سنة الفجر، فإن خاف فوتها مع الفريضة؛ لا يتيمم، وإن خاف فوتها وحدَها؛ فعلى قول الإمام محمَّد بن الحسن: لا يتيمم، وعلى قول الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف: يتيمم، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، وفي الحديث دليلٌ على جواز التيمم لصَلاة الجنازة عند خوف فواتها، وهو قول الأئمَّة الكوفيون، والليث، والأوزاعي؛ لأنَّه عليه السَّلام تيمم؛ ليردَّ السلام في الحضر لأجل خوف فوت فضيلة السَّلام، والطهارة فيه ليست بشرط وإن كان ليس شرطًا، ومنع مالك، والشافعي، وأحمد ذلك، والحديث حُجَّة عليهم، كذا قاله إمام الشَّارحين نقلًا عن الحافظ أبي جعفر الطَّحاوي.

قلتُ: وفي الحديث دليلٌ على جواز التيمم لصلاة العيدين؛ لأنَّهما يفوتان لا إلى بدل؛ لاشتراط الجماعة فيهما، ويدلُّ لهذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إذا جئت العيد فخشيت فوتها؛ فصلِّ بالتيمم)، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا وجدت جنازة فخشيت فوتها؛ فصلِّ عليها بالتيمم)، فكما أنَّه عليه السلام تيمم لردِّ السَّلام خشية الفوات -مع أنَّ الطهارة ليست بشرط في الردِّ- دلَّ على جواز التيمم للصلاة التي يخشى فواتها لا إلى بدلٍ؛ كصلاة الجنازة، والعيدين.

وقال إمام الشَّارحين: (ويُستنبط من الحديث جواز التيمم في الحضر، وعليه بوَّب البخاري)، وقال بعضهم: فيه دليل على التيمم في الحضر، لكن لا دليل فيه أنَّه رفع بذلك التيمم الحدث رفعًا استباح به الصَّلاة؛ لأنَّه إنَّما فعله كراهة أن يذكر الله على غير طهارة، وكذا رواه حمَّاد في «مصنفه»، وزعم ابن الجوزي: أنَّه كره عليه السلام أن يردَّ عليه السلام؛ لأنَّه اسمٌ من أسماء الله تعالى، أو يكون هذا في أول الأمر، ثُمَّ استقر الأمر على غير ذلك، وقال في «شرح مختصر» الحافظ الطَّحاوي: حديث المنع من ردِّ السلام منسوخ بآية الوضوء، وقيل: بحديث عائشة قالت: «كان عليه السَّلام يذكر الله على كلِّ أحيانه»، وقد جاء ذلك مصرَّحًا به في حديث رواه جابر الجعفي، عن عبد الله بن محمَّد بن أبي بكر بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء (٢)، عن أبيه قال: كان النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أراد الماء نكلِّمه؛ فلا يكلِّمنا، ونسلِّم عليه؛ فلا يُسلم علينا حتى نزلت آية الرخصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: ٦]، وزعم ابن دقيق العيد وحديث مهاجر بن القُنفذ مَعلول ومُعَارض، أمَّا كونه مَعلولًا؛ فلأنَّ سَعِيْد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخر عمره؛ فيراعى فيه سماع مَنْ سمع منه قبل الاختلاط، وقد رواه النسائي من حديث شعبة عن قتادة به، وليس فيه: (أنَّه لم يمنعني...) إلى آخره، ورواه حمَّاد بن سَلَمَة، عن حُميد، وغيره عن الحسن بن مُهاجر مُنقطِعًا، فصار فيه ثلاثُ عِلل، وأمَّا كونه مُعَارضًا؛ فلما رواه البخاري ومُسلم من حديث كريب عن ابن عباس قال: (نمتُ عند خالتي ميمونة...)؛ الحديث؛ ففي هذا ما يدل على جواز ذكر الله، وقراءة القرآن مع الحدث، وزعم الحسن أن حديث مُهاجر غير منسوخ، وتمسك بمقتضاه، فأوجب الطهارة للذِّكر، وقيل: يتأوَّل الخبر على الاستحباب؛ لأنَّ ابن عمر ممن روى في هذا الباب كما ذكرناه، والصحابي الراوي أعلم بالمقصود، انتهى، والله تعالى أعلم.

(٤) [باب: المُتيمم هل ينفخ فيهما؟]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، يذكر فيه، وقوله: (المُتيمم) ثابتٌ في رواية الأكثرين، ساقط في روايةٍ (هل ينفخ فيهما) أي: في اليدين بعد ما يضرب بهما الصعيد للتيمم، وإنَّما أورده بلفظ الاستفهام على سبيل الاستفسار؛ لأنَّ نفخه صلَّى الله عليه وسلَّم في يديه في التيمم على ما يأتي في حديث الباب يحتمل وجوهًا ثلاثة:

الأول: أن يكون لشيء عَلِق بيده؛ فخشي عليه السلام أن يصيب وجهه الكريم؛ فنفخ لذلك.

الثاني: أن يكون قد علق بيده من التراب ما يكرهه؛ فلذلك نفخ فيهما.

والثالث: أن يكون لبيان التشريع، وهو الظَّاهر، ولهذا احتج الإمام الأعظم رئيس المجتهدين بذلك، ولم يشترط التصاق التُّراب بيد المُتيمم؛ وعلى هذا؛ هذه الاحتمالات المذكورة التي ذهب إليها بعضهم غير سديدة، بل ظاهر الحديث لبيان التشريع، والحكمة فيه: إزالة التلوث عن الوجه واليدين، وتبويب البخاري بالاستفهام أيضًا غير سديد، ووجه المناسبة بين البابين ظاهرٌ؛


(١) في الأصل: (تجر)، وهو تصحيف.
(٢) في الأصل: (القعوا)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>