للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بضمِّ الحاء المهملة؛ أي: الطويل المتقدم (قال: سمعت أنسًا) رضي الله تعالى عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: مثل الحديث المذكور، وهو مفعوله الثاني حذف للعلم به، وفيه التصريح بسماع حميد عن أنس خلافًا لما روى يحيى القطان عن حمَّاد بن سَلَمَة أنه قال: حديث حميد عن أنس في البزاق إنَّما سمعه عن ثابت عن أبي نضرة، فظهر من تصريح سماعه أنه لم يدلس فيه، وقال: يحيى القطان، ولم يقل شيئًا؛ لأنَّ هذا قد رواه قتادة عن أنس غير هذا، وهو أنه عليه السلام قال: «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها»، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».

قال ابن بطال: ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: بزق في ثوبه، وفي (وما تنخم...) إلخ، فإن ذلك يفيد طهارة البصاق والمخاط، قال إمام الشارحين: (وهذا أمر مجمع عليه، لا أعلم فيه خلافًا إلا ما روي عن سلمان أنه جعله غير طاهر وإلا الحسن بن حي (١)، فإنه كرهه في الثوب، وعن الأوزاعي أنه كره أن يدخل سواكه في وضوئه، وذكر ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن إبراهيم النخعي أنه ليس بطهور، وقال ابن حزم: صحَّ عن سلمان الفارسي وإبراهيم النخعي: أن اللعاب نجس إذا فارق الفم، وقال بعض الشراح: وما ثبت عن الشارع من خلافهم؛ فهو المتبع والحجة البالغة، فلا معنى لقول من خالف، وقد أمر الشارع المصلي أن يبصق عن شماله، أو تحت قدمه، وبزق الشارع في طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض، وقال: أو يفعل هكذا، وهذا ظاهر في طهارته؛ لأنَّه لا يجوز أن يقوم المصلي على نجاسة، ولا أن يصلي وفي ثوبه نجاسة) انتهى.

لا يقال: إن بزاقه وغيره من فضلاته عليه السلام طاهرة، فلا يدل على طهارة بزاق غيره؛ لأنا نقول: إن لم يدل ما ذكر على الطهارة؛ فيدل عليها قوله عليه السلام لمن أمره بأن يبزق عن يساره، أو تحت قدمه، وبزق في طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض، وقال: أو تفعل هكذا؛ فافهم.

قال إمام الشارحين: (قلت: أما بصاق النبيِّ عليه السلام؛ فهو أطيب من كل طيب، وأطهر من كل طاهر، وأما بصاق غيره؛ فينبغي أن يكون بالتفصيل؛ وهو أن البصاق طاهر إذا كان من فم طاهر، وأما إذا كان من فم شارب الخمر؛ فينبغي أن يكون نجسًا في حال شربه؛ لأنَّ سؤره في ذلك الوقت نجس، فكذلك بصاقه، وكذا إذا كان من فم من فيه جراحة، أو دمل يخرج منه دم أو قيح، وقال أصحابنا: الدم المساوي للريق ينقض الوضوء استحسانًا كالغالب على البزاق بخلاف الناقص عنه، ولو كان لون الريق أحمر؛ نقض، وإن كان أصفر؛ لا ينقض، ثم إذا حكم بطهارة البزاق على الوجه الذي ذكرناه يعلم منه أنه إذا وقع شيء منه في الماء؛ لا ينجسه، ويجوز الوضوء منه، وكذا إذا وقع في الطعام؛ لا يفسده غير أن بعض الطباع يستقذر ذلك، فلا يخلو عن الكراهة) انتهى والله أعلم.

(٧١) [باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (لا يجوز الوضوء بالنبيذ)؛ بالذال المعجمة، قال ابن سيده: (النبذ: طرحك الشيء، وكل طرح نبذ، والنبيذ: الشيء المنبوذ، والنبيذ: ما نبذته من عصير ونحوه، وقد نبذ، وانتبذ، ونبذ، والانتباذ: المعالجة)، وفي «الصحاح» : (والعامة تقول: انتبذت)، ومثله في كتاب ابن درستويه، وذكر اللحياني في «نوادره» : ومن حمض الحامض انتبذت؛ لغة، ولكنها قليلة، وذكره أيضًا ثعلب في كتاب (فعلت وأفعلت)، وفي «الجامع» للقزاز: (أكثر الناس يقولون: نبذت النبيذ، ولم أسمعها أنا من العرب)، قال إمام الشارحين: (النبيذ فعيل بمعنى مفعول؛ وهو الماء الذي ينبذ فيه تميرات؛ لتخرج حلاوتها إلى الماء)، وفي «نهاية ابن الأثير» : (النبيذ: ما يعمل من الأشربة من التمر، والزبيب، والعسل، والحنطة، والشعير، وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب؛ إذا تركت (٢) عليه الماء؛ ليصير نبيذًا، فصرف من مفعول إلى فعل، وانتبذته: اتخذته نبيذًا وسواء كان مسكرًا أو غير مسكر، وهو من باب «فعَل يفعِل»؛ بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع؛ كـ (ضرَب يضرِب)، ذكره صاحب «الدستور»، وفي «العباب» : وانتبذت النبيذ، لغة عامية، ونبذت الشيء تنبيذًا؛ شدد للمبالغة) انتهى.

وحاصل كلامه: أن المراد بالنبيذ المطروح في الماء من تمر وغيره؛ لتخرج حلاوته إلى الماء وليس هو الماء المطروح فيه ما ذكر، وجرى عليه القسطلاني، والحامل لهما على تفسيره بما ذكره أن الوضوء في الحقيقة بالماء لا بالمنبوذ فيه؛ فافهم، وتبعه في ذلك ابن حجر حيث قال: (والمراد الماء المطروح فيه التمر ونحوه) انتهى.

(ولا بالمسكر) وفي رواية: (ولا المسكر)؛ بحذف الموحدة؛ أي: لا يجوز أيضًا به، قال ابن حجر: (هو من عطف العام على الخاص)، ورده في «عمدة القاري» فقال: (إنما يكون ذلك إذا كان المراد بالنبيذ ما لم يصل إلى حد الإسكار، وأما إذا وصل؛ فلا يكون من هذا الباب) انتهى؛ يعني: إذا لم يصل النبيذ إلى حد الإسكار؛ فهو من عطف العام على الخاص، وأما إذا وصل إليه؛ كان من عطف المغاير، وهذا ظاهر.

وزعم العجلوني: أن عبارة ابن حجر هكذا من عطف العام على الخاص، أو المراد بالنبيذ ما لم يبلغ حد الإسكار، قال: وكأن النسخة التي وقعت لصاحب «عمدة القاري» سقط منها: (أو المراد...) إلخ، فاعترض على إطلاقه، قال: (ومعنى كلام ابن حجر: أنه إذا لم يصل النبيذ إلى حد الإسكار؛ لا يكون من عطف العام؛ بل من المغاير، فإن وصل إليه؛ كان من عطف العام على الخاص) انتهى.

قلت: وهذا ممنوع وفاسد، فإن نسخ ابن حجر كلها هكذا من عطف العام على الخاص، ولم توجد هذه الزيادة التي زادها العجلوني، وهي (أو المراد...) إلخ، فلا ريب أنها زيادة منه؛ لأجل ترميم عبارة ابن حجر حتى لا يتوجه عليها اعتراض إمام الشارحين، ويدل لذلك أن ابن حجر رأى الاعتراض عليه، وقال في «الانتقاض» معترضًا على صاحب «عمدة القاري» : (قلت: هو الذي اختُلِفَ في الوضوء به، فيتخصص بالحيثية) انتهى.

فلو كانت عبارته في «الفتح» غير التي نقلها صاحب «عمدة القاري»؛ لذكر ذلك، فعدم تعرُّضه لذلك دليل على أنها زيادة من العجلوني، وصاحب الدار أدرى بالذي فيه، وقول العجلوني: (ومعنى كلام ابن...) إلخ ممنوع؛ لأنَّه لو كان معناها هكذا؛ لكان ذكره ابن حجر في «الانتقاض»، فدل ذلك على أنه ليس بمراد لابن حجر مع أنه فيه خبط وقلب؛ فافهم، وهذا دأب العجلوني ترميم عبارة ابن حجر؛ لأنَّه عندهم من المعصومين لا يجري عليه خطأ ولا غفلة، بل لو ادَّعى النبوة؛ لسلموا له ذلك، وقالوا: لا نبي بعدي؛ أي: لا نبي من الناس لا من الشافعية؛ فافهم، ومن دق الباب؛ سمع الجواب.

قال إمام الشارحين: (وتخصيص النبيذ بالذكر من بين المسكرات؛ لأنَّه محل الخلاف في جواز التوضُّؤ به) انتهى؛ يعني: وأما المسكر؛ فهو نجس إجماعًا؛ فافهم.

(وكرهه)؛ أي: الوضوء بالنبيذ، لكن مع صحة الوضوء به (الحسن)؛ أي: البصري، كما رواه ابن أبي شيبة عن سفيان عمَّن سمع الحسن يقول: (لا يُتَوَضَّأُ بنبيذ، ولا بلبن)، ورواه عبد الرزاق عن إسماعيل بن مسلم المكي، عن الحسن قال: (لا يُتَوَضَّأُ بلبن، ولا بنبيذ)، وروى أبو عبيد من طريق آخر عن الحسن أنه قال: (لا بأس به)، فعلى هذا؛ كراهته عنده كراهة تنزيه، وحينئذٍ لا يساعد الترجمة، كذا قاله إمام الشارحين؛ يعني: أنه يحتمل أن للحسن قولين، وعلى الكراهة التنزيهية لا يناسب الترجمة، وزعم العجلوني أنه يحمل (لا يجوز) في الترجمة على الجواز المستوي الطرفين.

قلت: وهذا الحمل غير صحيح، كما لا يخفى، (و) كذا كرهه (أبو العالية)؛ بالعين المهملة، بعدها ألف، فلام، فتحتية، فهاء تأنيث، رُفَيع؛ بالتصغير؛ بضمِّ الراء، وفتح الفاء، ابن مَهْران؛ بفتح الميم، وسكون الهاء، بعدها راء، فألف، فنون، الرِّياحِي؛ بكسر الراء، بعدها تحتية مخففة، بعدها حاء مهملة مكسورة، كما رواه الدارقطني في «سننه» بسند جيد عن أبي خلدة، قال: قلت لأبي العالية: (رجل ليس عنده ماء وعنده نبيذ أيغتسل به من الجنابة؟ قال: لا)، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا مروان بن معاوية عن أبي خلدة، عن أبي العالية: (أنه كره أن يغتسل بالنبيذ)، وكذا رواه أبو عبيد عن أبي خلدة، وفي روايته: (فكرهه).

قلت: الظاهر: أن هذا أيضًا كراهة التنزيه، كذا قاله إمام الشارحين؛ يعني أنه يحتمل أن يكون لأبي العالية قولين، وعلى القول بالكراهة التنزيه لا يناسب الترجمة؛ فليحفظ.

(وقال عطاء)؛ بالمد، هو ابن أبي رَباح؛ براء مفتوحة، فموحدة مخففة (التيمُّم أحبُّ إليَّ من الوضوء بالنبيذ واللبن)؛ أي: بأحدهما، قال صاحب «عمدة القاري» : وهذا يدل على أن عطاء يجيز استعمال النبيذ في الوضوء،


(١) في الأصل: (حيي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (نزلت)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>