للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فأتبعه إياه)، ولم تقل: ولم يغسله، وإتباع الماء حكمه حكم الغسل؛ لأنَّه صبٌّ، وهو غسل وزيادة، وإنما قال في الحديث: (لم يأكل الطعام)؛ ليحكي القصة كما وقعت لا للفرق بين اللبن والطعام؛ لأنَّه لا فرق في نجاسة البول بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ويجب غسله بالماء وبكل مائع مزيل، هذا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والإمام مالك، وأكثر أصحابه، وهو مذهب إبراهيم النخعي، وسَعِيد بن المسيب، والحسن ابن حي، وسفيان الثوري، وغيرهم، وخالفهم الشافعي وأحمد وقالا: إن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام؛ يكتفى برش الماء عليه، وأما بول الصبية ولو لم تطعم؛ يغسل، ولا حجة لهما في حديث الباب؛ لأنَّ المراد بالنضح: الغسل، كما قدمناه.

وقوله: (ولم يغسله)؛ أي: بالعرك والعصر كما تغسل الثياب التي أصابتها النجاسة بل يكفي الصب والسيلان على أنَّ الأصيلي قال: إن قوله: (ولم يغسله) من كلام ابن شهاب راوي الحديث، وأن المرفوع ينتهي عند قوله: (فنضحه)، قال: وكذلك رواه معمر عن ابن شهاب، ولم يزد على (فنضحه)، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، قال: (فرشَّه)، ولم يزد على ذلك، وعند مسلم من طريق الليث عن ابن شهاب: (فلم يزد على أن نضحه بالماء)، ولا تخالف بين الروايتين؛ لأنَّ النضح والرش بمعنى الغسل، كما قدمناه، ويدل لذلك رواية مسلم في حديث عائشة من طريق جرير عن هشام: (فدعا بماء، فصبه عليه)، وعند أبي عوانة: (فصبه على البول يتبعه إياه)، فإن هذه أثبتت أن النضح بمعنى الصب؛ لأنَّ الأحاديث المذكورة في هذا الباب باختلاف ألفاظها تنتهي إلى معنى واحد [دفعًا] للتضاد، ألا ترى أن أم الفضل لبابة بنت الحارث قد روي عنها حديثان؛ أحدهما فيه النضح، والثاني فيه الصب، فحمل النضح على الصب دفعًا للتضاد وعملًا بالحديثين، على أن الأحاديث الواردة في ذلك في حكم واحد باختلاف ألفاظها يفسر بعضها بعضًا، ومن الدلائل على أن النضح هو صب الماء والغسل من غير عرك: قول العرب: غسلني السماء، وإنما يقولون ذلك عند انصباب المطر عليهم، وكذلك يقال: غسلني التراب؛ إذا انصب عليه، إذا علمت هذا؛ فلا يكون الحديث حجة للشافعي وأحمد.

فإن قلت: لا يتعين استدلالهما بهذا الحديث بل بغيره من الأحاديث؛ فمنها: حديث زينب بنت جحش، أخرجه الطبراني في «الكبير» مطولًا، وفيه: (أنه يصب من الغلام، ويغسل من الجارية)، ومنها: حديث أبي السمح، أخرجه أبو داود والنسائي قال: (كنت أخدم النبي عليه السلام...)؛ الحديث وفيه: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام»، ومنها: حديث أنس، أخرجه الطبراني في «الكبير» مطولًا، وفيه: (فصب على بول الغلام، ويغسل بول الجارية)، ومنها: حديث أبي أمامة، أخرجه أيضًا في «الكبير» : (أنه عليه السلام أتي بالحسين فجعل يقبله، فبال، فذهبوا ليتناولوه، فقال: «ذروه» فتركه حتى فرغ من بوله).

قلت: وهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا يحتج بها، أما حديث زينب بنت جحش؛ ففي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وأما حديث أبي السَّمْح؛ بفتح السين المهملة، وسكون الميم، آخره حاء مهملة، لا يعرف له اسم، ولا يعرف له غير هذا الحديث، كذا قاله أبو زرعة الرازي؛ أي: فهو مجهول، وأما حديث أنس؛ ففي إسناده نافع بن هرم، وأجمعوا على ضعفه، وأما حديث أبي أمامة؛ ففي إسناده عمرو بن معدان، وأجمعوا على ضعفه، وكذلك كل ما ورد من ذلك؛ فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به.

وزعم ابن دقيق العيد أن الحنفية اتبعوا في ذلك القياس، وتركوا الأحاديث الصحيحة.

قلت: وهذا الزعم باطل فإن الأئمَّة الحنفية قد اتبعوا في ذلك الأحاديث الصحيحة التي قدَّمناها، وأما أخصامنا؛ فقد اتبعوا الأحاديث الضعيفة التي لا يصح الاحتجاج بها، وفرقوا بين بول الذكر والأنثى، وهو فرق فاسد، وأي فرق بينهما؟! ألا ترى أن الدم منهما متحد لونًا وحرارةً، ويلزم على قياسهم هذا أن يفرقوا بين بول المرأة والرجل مع أنهم وغيرهم لم يفرقوا بينهما.

فإن قالوا: إن بول الطفلين رقيق خفيف، لكن بول الغلام أخف؛ لاستيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجه ففي رطوبته لزوجة فيكون ألصق بالمحل، بخلاف بولها؛ فإنه مجتمع فيظهر أثره في المحل.

قلنا: هذا تفريق فاسد وكلام باطل، فإنَّ علماء طب الأبدان قد قالوا: إن بول الغلام أشد حرارة من بول الجارية، وليس فيه رطوبة ولا برودة، فإن البول من طبع البدن، ولا ريب أن بول الغلام حار حرارة غريزية، وبول الجارية بحسب بدنها رطب بارد، فما قالوه قياس فاسد، وفرق باطل، وقد قال المتقدمون من التابعين: إن الأبوال كلها نجسة سواء كانت بول ذكر أو أنثى، وبه قال سَعِيْد بن المسيب، والحسن البصري، وغيرهم، لا يقال: إن قول التابعي لا يلزمنا؛ لأنَّه رأي له؛ لأنا نقول مثل هذا لا يقال من قبيل الرأي، بل بسماع من الصحابة، وقول الصحابي حجة؛ لأنَّه لا يقوله برأيه بل بسماع من النبي الأعظم عليه السلام؛ فافهم.

ونقل الشافعية عن بعض أهل اللغة أن النضح: الرش.

قلت: وكأنهم لما بطل دليلهم من الأحاديث استندوا إلى بعض أهل اللغة، وهو لا ينهض دليلًا لهم، فإن أهل اللغة قالوا: إذا ذكر الرش في كلام العرب؛ فالمراد به: الغسل، وقد فسره النبي الأعظم عليه السلام الذي هو أفصح العرب بأنه الغسل، فإذا كان هذا تفسير النبي عليه السلام؛ فكيف يجوز العدول عنه؟! وما ذاك إلا قول غير مرضي وباطل، والله تعالى أعلم.

ولنا أحاديث كثيرة دالة وشاهدة على أن النضح في ذلك الغسل، وقد سردها الإمام الهمام شيخ الإسلام بدر الدين العيني في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.

(٦٠) [باب البول قائمًا وقاعدًا]

هذا (باب) بيان حكم (البول)؛ أي: بول الشخص حال كونه (قائمًا و) حال كونه (قاعدًا) فالواو للتنويع، وقدَّم (قائمًا)؛ لذِكْرِه في الحديث دون (قاعدًا) المعلوم حكمه قياسًا، قال ابن بطال: دلالة الحديث على القعود بطريق الأولى؛ لأنَّه إذا جاز قائمًا؛ فقاعدًا أجوز؛ لأنَّه أمكن، قال ابن حجر: (ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث عبد الرحمن بن حسنة الذي أخرجه النسائي، وابن ماجه، وغيرهما، فإن فيه: «بال رسول الله عليه السلام جالسًا، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة»)، واعترض في «عمدة القاري» ابن بطال، فقال: (قلت: قوله: «ودلالة الحديث...» إلى آخره: غير مسلَّم؛ لأنَّ أحاديث الباب كلها في البول قائمًا، وجواز البول قائمًاحكم من الأحكام الشرعية، فكيف يقاس عليه جواز البول قاعدًا بطريق العقل؟! والأحسن أن يقال: لمَّا ورد في هذا الباب جواز البول قائمًا وجوازه قاعدًا بأحاديث كثيرة؛ أورد البخاري أحاديث الفصل الأول فقط، وفي الترجمة أشار إلى الفصلين إما اكتفاء بشهرة الفصل الثاني، وعمل أكثر الناس عليه، وإما إشارة إلى أنَّه وقف على أحاديث الفصلين، ولكنه اقتصر على أحاديث الفصل الأول لكونها على شرطه) انتهى.

قلت: ومراده بقوله: (بطريق العقل)؛ أي: أنه حيث علَّله بقوله: (لأنَّه أمكن) من غير استناد إلى الأحاديث، فهو قياسي عقلي، فيكون مردودًا، ومراده بقوله: (والأحسن) : الحسن لا أن كلامه حسن، وهذا أحسن؛ فافهم، ومراده بقوله: (وعمل أكثر الناس عليه)؛ أي: مع استنادهم إلى الأحاديث الدالة على ذلك الحكم الشرعي لا بدون ذلك، فإنه لا يقوله

<<  <   >  >>