وقوله: (ابدأْن)؛ بسكون الهمزة، من ابتدأ، أمر لجمع المؤنث (بميامنها) (١) : جمع ميمنة؛ وهي الجهة اليمنى، (ومواضع الوضوء منها)؛ ففيه المطابقة للترجمة؛ لأنَّ التقدير: ابدأن بميامنها؛ أي: في تغسيلها، وابدأن بميامن مواضع الوضوء منها؛ بناء على جواز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، أو لأنَّ التقدير: ابدأن بميامنها مطلقًا؛ أي: في الغسل والوضوء، وعليه فقوله: (ومواضع) عطف على (ميامنها) فيكنَّ مأمورات بالبداءة بالميامن مطلقًا، وبالبداءة بمواضع الوضوء مطلقًا؛ لشرفها، أو في الوضوء؛ لأنَّه يسن تقديمه على الغسل عند الأئمة الأربعة، وأمَّا ما نقله النووي عن الإمام الأعظم من عدم استحبابه؛ فغير صحيح؛ لأنَّ كتب مذهبه طافحة بالتصريح بالسنيَّة، وقد صرح به الإمام المرغيناني في «الهداية»، والإمام القدوري في «مختصره»، وتمامه في «عمدة القاري».
[حديث عائشة: كان النبي يعجبه التيمن في تنعله]
١٦٨ - وبه قال: (حدثنا حَفص بن عُمر)؛ بفتح الحاء المهملة، وبضم العين المهملة: الخوصي البصري، المتوفى بالبصرة سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة) : هو ابن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (أشْعَث)؛ بفتح الهمزة، وسكون الشين المعجمة، وفتح العين المهملة، آخره ثاء مثلثة (بن سليم)؛ بالتصغير، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئة (قال: سمعت أبي)؛ أي: سليم المذكور بن الأسود المحاربي؛ بضم الميم، الكوفي أبو الشعثاء، وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، المتوفى سنة اثنتين ومئة، (عن مسْروق)؛ بسكون السين المهملة: ابن الأجدع الكوفي أسلم قبل وفاة النبي الأعظم عليه السلام، وأدرك الصدر الأول من الصحابة، وكانت عائشة رضي الله عنها قد تبنَّت مسروقًا فسمى ابنته عائشة، فكني بأبي عائشة، (عن عائشة) : أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّها (قالت: كان النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم يُعجبه)؛ بضم التحتية، من الإعجاب، يقال: أعجبني هذا الشيء لحسنه، والعجيب: الأمر الذي يتعجب منه، وبمعناه: استعجبت، والمصدر: العَجَب؛ بفتحتين، وأمَّا العُجْب؛ بضم العين، وسكون الجيم؛ فهو اسم من أعجب فلان بنفسه، فهو معجَب -بفتح الجيم- برأيه وبنفسه، وأمَّا العَجْب؛ بفتح العين، وسكون الجيم، فهو أصل الذنب (التيمُّنُ)؛ بتشديد الميم المضمومة، بالرفع على الفاعلية؛ وهو الأخذ باليمين في الأشياء؛ أي: الابتداء باليمين؛ لأنَّه يحب الفأل الحسن؛ أن أصحاب اليمين أهل الجنة، وزاد المؤلف في (الصلاة) : (ما استطاع)، فنبَّه على المحافظة عليه ما لم يمنع مانع، والتيمن: لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرُّك، فبيَّن حديث أم عطية أنَّ المراد به الأول، والجملة من الفعل والفاعل محلها النصب على أنَّه خبر (كان) (في تَنَعُّله)؛ أي: في لبسه النعل؛ وهي التي تلبس في المشي، وهي مؤنثة، يقال: نعلت وانتعلت؛ إذا لبست النعل، وانتعلت الخيل؛ بالهمزة، وبه الحديث: (أنَّ غسان تنعل خيلها)، وفي الروايات كلها: (في تَنَعُّله)؛ بفتح الفوقية والنُّون، وتشديد العين، وكذا ذكره الحميدي والحافظ عبد الحق في كتابيهما «الجمع بين الصحيحين»، وفي رواية مسلم: (في نعله)؛ بالإفراد، وفي بعض الروايات: (نعليه)؛ بالتثنية، قال النووي: (وهما صحيحان، ولم ير في شيء من نسخ بلادنا غير هذين الوجهين)، قلت: الروايات كلها صحيحة؛ فافهم، كذا في «عمدة القاري»، والجار والمجرور في محل النصب على الحال من الضمير المنصوب في (يعجبه)؛ والتقدير: كان يعجبه التيمن حال كونه لابسًا النعل، ويجوز أن يكون من التيمن؛ أي: يعجبه التيمن حال كون التيمن في تنعله، ويجوز أن يكون ظرفًا لغوًا للتيمن؛ فتأمل.
(و) في (ترجُّله)؛ بتشديد الجيم المضمومة؛ أي: في تمشيطه الشعر؛ وهو تسريحه، وهو أعم من أن يكون في الرأس أو في اللحية، وقال ابن حجر: (أي: ترجيل شعره؛ وهو تسريحه ودهنه)، قال في «المشارق» : (رجَّل شعره؛ إذا مشطه بماء أو دهن؛ ليلين، ويرسل الثائر، ويمد المنقبض) انتهى، لكن في «المغرب» : (رجَّل شعره؛ أرسله بالمرجل؛ وهو المشط، وترجَّل: فعل ذلك بنفسه)، ويقال: شعر رَجَل ورَجِل؛ وهو السبوطة والجعودة، وقد رَجِل رَجَلًا، ورَجَّله هو، ورجُل رَجِل الشعر ورَجَلَ، وجمعهما: أرْجال، ورَجَال، ذكره ابن سيده في «المحكم»، وذكر نحوه في «الصحاح»، و «القاموس»، وغيرها، واللفظ لا يدل على الدهن، فما فسره في «المشارق» وتبعه ابن حجر؛ مبني على العادة النادرة التي لا حكم لها لا اللغة، وكأنهما لم يفرقا بين العادة واللغة، أو هو قول شاذ لبعض أهل اللغة؛ لأنَّ كتب اللغة المشهورة لم تصرح بذلك، وهذا دأب ابن حجر يعتمد على الأقوال الشاذة في اللغة والمذاهب، كما بين ذلك في «كشف الحجاب عن العوام».
(وفي طُهوره) : زاد أبو داود: (وسواكه)، و (طُهوره)؛ بضم الطاء؛ لأنَّ المراد: وفي طهره، وقال الكرماني: ولا يجوز فتحها هنا، واعترضه في «عمدة القاري» : بأنَّه لا نسلِّم هذا على الإطلاق؛ لأنَّ الخليل، والأصمعي، وأبا حاتم السجستاني، والأزهري، وآخرين قد ذهبوا إلى أن (الطَّهور) بالفتح في الفعل الذي هو المصدر، والماء الذي يتطهر به، وقال صاحب «المطالع» : وحُكِي الضم فيهما، والفرق المذكور ذكره ابن الأنباري عن جماعة من أهل اللغة، فإذا كان كذلك؛ فقول الكرماني: (ولا يجوز فتحها)؛ غير صحيح على الإطلاق، انتهى.
واعتراض صاحب «عمدة القاري» على الكرماني صحيح لا غبار عليه؛ لأنَّ جميع نسخ شرح «الكرماني» هكذا كما علمت، وقال بعضهم: بل في «شرح الكرماني» أنَّه قال: (ولا يجوز فتحها هنا) على ما تقدم من الفرق بينهما على ما هو المشهور، انتهى، قلت: وهذه زيادة من بعض المطلعين على الشرح المذكور لا من أصل المؤلف، وأن أصل الشرح ما ذكره صاحب «عمدة القاري» وهي النسخ المقابلة على أصل المؤلف وعليها خطوط بعض العلماء، فثبت أن هذه الزيادة من غير المؤلف، والاعتراض باق على حاله؛ فليحفظ.
وفي رواية ابن منده: (كان يحب التيامن في الوضوء والانتعال)، وفيه المطابقة للترجمة؛ لأنَّ الطهور يشمل الوضوء، والغسل، والتيمم، والتخفف، فتسحب البداءة بالجهة اليمنى في الغسل، وباليمين في اليدين والرجلين على اليسرى، وفي «سنن أبي داود» عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا توضأتم؛ فابدؤوا بميامنكم»، وفي أكثر طرقه: (بأيامنكم)، جمع أيمن؛ إذا لبستم وإذا توضأتم، والأمر فيه للاستحباب، فإن قدَّم اليسرى على اليمنى؛ كره تنزيهًا، ووضوءُه صحيح بإجماع أهل السنة.
وروينا عن علي، وأبي هريرة، وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا يُبَالَى بأيٍّ بدأت، وزعم الشيعة أنَّه واجب، وما نقله المرتضى عن الشافعي: من أنَّه واجب؛ فغلط، وكأنَّه قاسه على وجوب الترتيب عنده.
وقد صحَّف العمراني في «البيان»، والبندنجي في «التجريد» (الشيعة)؛ بالمعجمة بـ (السبعة) من العدد في نسبتهما القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة، فهو بعيد جدًّا وواه، ووهم الرافعي فنقل عن أحمد: أنَّه واجب؛ لأنَّ صاحب «المغني» قال: لا نعلم في عدم الوجوب خلافًا، وأمَّا الأذنان والخدان؛ فلا يستحب التيامن فيها؛ لأنَّ الأذنين تبع للرأس، وهو عضو واحد، والخدين تبع للوجه، وهو عضو واحد، بل يستحب المعية فيهما، كما قدمناه، فإن كان أقطع ونحوه ولا يمكنه مسحهما معًا؛ فيستحب له أن يبدأ بالأذن اليمنى ثم باليسرى، وكذا يستحب أن يبدأ بالخد الأيمن ثم بالأيسر، كذا يستفاد من «السراج الوهاج» كما نقله في «منهل الطلاب».
وفي الحديث: استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن
(١) (بميامنها) : جاء في الأصل بعد قوله: (من ابتدأ).