بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
يا رب العالمين
الحمد لله الذي نشر العلوم على يد أولي الألباب، وخصَّ مَن شاء بما شاء من الفضائل والنعم الجلباب، فألهمهم الفهم والإفهام، والضبط والصواب، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد الذي لا ينطق إلَّا بالصواب، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم الأنجاب.
أمَّا بعد:
فيقول العبد الفقير الفاني أبو عبد الرزاق عبد القادر بن المرحوم السيد عبد الله أفندي الأنصاريُّ الشهير بالأسطوانيِّ الحنفيُّ القادريُّ الدمشقيُّ غفر الله لهما بمنِّه، وستر عليهما بفضله، آمين:
فإنِّي لمَّا قرأتُ «صحيح البخاري» على مشايخي الأعلام، وراجعتُ شروحه العِظام، فرأيتُ بعضَها مطوِّل مُمِلٌّ، وبعضَها مُقِلٌّ مُخِلٌّ؛ أردتُ أن أجمع تقرير أشياخي، وأجعلها شرحًا لـ «الصحيح»، فإنِّي وإن كنتُ لستُ من أهل هذا الشأن ولا للخوض في هذا الميدان، لكنِّي أتشبَّه بهم، وأقتدي بمَن قال:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم... إنَّ التشبُّه بالكرام فلاح
والذي أوقعني في هذا التشبُّه بعض أصحابي الأحباب بإلحاحهم عليَّ بوضع شرح على هذا الكتاب، فاستعنتُ الله على ذلك، وسألتُه إلهام الصواب، والإتمام على أتم المرام، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به عباده المؤمنين، وإذا كمل إن شاء الله تعالى؛ فأسمِّيه:
«أصل الزراري على صحيح البخاري»
واللهَ أسأل، وبنبيه أتوسَّل أن يوفقَني لإتمامه، ويعينَني على إكماله؛ إنَّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
مقدمة تشتمل على فصول:
الأول: في فضيلة أهل الحديث:
روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرُبُّ حامل فقه ليس بفقيه...» الحديث، رواه البزار، وابن حبان، وكذا أبو داود بلفظ: «نضَّر الله امرأ سمع منَّا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع»، قال الترمذي: حسن صحيح.
و (نضَّر)؛ بتشديد الضَّاد المعجمة، وقد تُخفَّف، والنَّضرة: الحُسن والبهجة؛ أي: خصَّه اللهُ بالحُسن والبهجة، وخصَّ الفقه؛ لأنَّ عليه مدار الأحكام؛ لِمَا روي: «من يُرد الله به خيرًا؛ يُفقهه في الدين»، رواه الشيخان، وغيرهما، وفي «الطبراني» : «اللهم ارحم خلفائي»، قلنا: يا رسول الله؛ من خلفاؤك؟ قال: «الذين يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس».
الفصل الثاني: في ذكر أوَّل مَن دون الحديث والسُّنن.
فأوَّل مَن أمر بتدوين الحديث وجمْعِه عمرُ بن عبد العزيز خوفَ اندراسه، فإنَّه كتب إلى أهل الآفاق: (انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه)؛ لأنَّ الصحابة والتابعين لم تكن تكتب الأحاديث، وإنَّما كانوا يؤدونها من حفظهم.
ولمَّا نشأ إمامنا الأعظم، والمجتهد الأفخم، سيِّد المجتهدين، وسند المحقِّقين الذي أقرَّ بأسبقيته وفضله المجتهدون أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه، فألَّف بالفقه ودوَّنه وبوَّبه، وجعلَه مرتبًا على كتب وفصول؛ رآه الإمام مالك، فتبعه وألَّف «الموطأ»، ثم تبعه مَن بعده وهكذا، وإنَّما كان اشتغال الإمام الأعظم بالفقه للحديث السابق، ولأنَّ عليه مدار الأحكام من حلال وحرام، وهذا هو المسؤول عنه يوم القيامة؛ فليُحفظ.
الفصل الثالث: في بيان تقسيم السنن المضافة إليه عليه السلام
قولًا، وفعلًا، أو تقريرًا، وكذا وصفًا، وخَلقًا -ككونه ليس بالطويل، ولا بالقصير- وأيامًا -كاستشهاد حمزة، وقتل أبي جهل- إلى متواتر ومشهور، وصحيح، وحسن، وصالح، ومُضعَّف، وضعيف، ومسند، ومرفوع، وموقوف، وموصول، ومرسل، ومقطوع، ومنقطع، ومعضل، ومعنعن، ومؤنن، ومعلق، ومدَلَّس، ومُدْرَج، وعال، ونازل، ومسلسل، وغريب، وعزيز، ومعلَّل، وفرد، وشاذ، ومنكر، ومضطرب، وموضوع، ومقلوب، ومركب، ومنقلب، ومدبج، ومصحف، وناسخ، ومنسوخ، ومختلف.
فالمتواتر: ما رواه جمع عن جمع.
والمشهور: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين.
والصحيح: ما اتصل سنده بعدول.
والحسن: ما عرف مخرجه.
والصالح: دون الحسن.
والمضعَّف: ما لم يُجْمع على ضعفه.
والضعيف: ما قَصُر عن درجة الحسن.
والمسند: ما اتصل سنده من رواته.
والمرفوع: ما أضيف إليه عليه السلام من قول، أو فعل، أو تقرير.
والموقوف: ما قَصُر على الصحابي.
والموصول: ما اتصل سنده.
والمرسل: ما رفعه تابعي إليه عليه السلام، وهو قوي يصح الاحتجاج به عند الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور، ولم يحتج به الشافعي؛ لأنَّه لم يذكر الصحابي الذي رواه، ورُدَّ: بأنَّه لما كان قويًا عند التابعي من حيث إنه لم يَحْتَج إلى ذكر الصحابي، فكأنَّه لشدَّة تيقنه سمعه منه عليه السلام.
والمقطوع: ما جاء عن تابعي.
والمنقطع: ما سقط من رواته واحد.
والمعضل: ما سقط من رواته اثنان.
والمعنعن: الذي قيل فيه: عن فلان عن فلان.
والمؤنن: قول الراوي: حدثنا فلان أن فلانًا قال.
والمعلق: ما حذف من أول إسناده.
والمدلَّس -بفتح اللام المشددة-: أن يسقط اسم شيخه، ويرتقي إلى شيخ شيخه.
والمدرج: كلام يذكر عقب الحديث.
والعالي: القرب منه عليه السلام.
والنازل: بضده.
والمسلسل: ما ورد بحالة واحدة.
والغريب: ما انفرد راوٍ بروايته.
والعزيز: ما انفرد بروايته اثنان.
والمعلَّل: خبرُ ظاهره السلامة.
والفرد: ما رواه واحد عن واحد.
والشاذ: ما خالف الراوي.
والمنكر: الذي لا يعرف متنه.
والمضطرب: ما روي على أوجه مختلفة.
والموضوع: الكذب.
والمقلوب: المبدل بعض رواته.
والمركب: الذي ركب إسناده لمتن آخر.
والمنقلب: هو مقلوب لفظه على الراوي.
والمدبج -بالموحدة والجيم-: رواية القرينين.
والمصحَّف: الذي تغير بنقط الحروف.
والناسخ والمنسوخ؛ كحديث المارِّ، وكحديث قنوت الفجر، وغيرهما، فإنَّ قتلَ المارِّ، وقنوتَ الفجر قد نسخ عند الإمام الأعظم، ومالك، وأحمد، والجمهور، وعند الشافعي: باق على أصله.
والمختلف؛ كحديث: «لا عدوى...»، وحديث: «فِرَّ من المجذوم...»، وجمع بينهما بأن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله مخالطة المريض للصحيح سببًا لإعدائه، وقد يختلف.
سئل المؤلف: متى يصير الرجل محدِّثًا؟
فأجاب: إذا كتب أربعًا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها؛ هان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر؛ أكرمه تعالى في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع.
سُئل عنها؟
أجاب: الأربعة التي يحتاج إلى كتْبها: هي أخبار الرسول عليه السلام، وشرائعه، والصحابة، والتابعين، وتواريخهم، وأزمنتهم، وأمكنتهم، وغير ذلك، ولا تتم إلا بأربع: معرفة الكتابة، والصرف، واللغة، والنحو، مع أربع: فهي القدرة، والصحة، والحرص، والحفظ، فإذا تم له ذلك؛ هان عليه أربع: الأهل، والمال، والولد، والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء، فإذا صبر؛ أكرمه في الدنيا بأربع: بعز القناعة، وبهيبة النفس، وبذلة العلم، وبحياة الأبد، وأثابه في الآخرة بأربع: بالشفاعة، وبظل تحت العرش، وبالسقي من الحوض، ومجاورة الأنبياء عليهم