ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها كما قدمناه؛ لأنَّ الشهوة حقيقة أو حكمًا، وذلك إذا احتلم ورأى بللًا ولم يدرك اللذة فإنه يمكن أنه أدركها، ثم ذهل عنها بوجود النوم فجعلت اللذة حاصلة حكمًا وهو ظاهر، فيمكن أن أم سَلَمَة قام عندها أن الاحتلام لم يوجد فيه شهوة وحديث: (الماء من الماء) مطلق غير مقيد بالشهوة فتركته؛ لأنَّه منسوخ بأحاديث؛ منها: ما قدمناه من حديث أم سَلَمَة عند ابن أبي شيبة، فقال عليه السلام: «هل تجد شهوة...»؛ الحديث، ولقوله تعالى: {مِن مَّاءٍ دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: ٦ - ٧] والدفق لا يكون إلا عن شهوة على أنه حديث (الماء من الماء) مطلق، فهو محمول على المقيد بالشهوة، ولأن (اللام) فيه للعهد الذهني؛ أي: الماء المعهود، والذي به عهدهم هو الخارج عن شهوة؛ لأنَّه كثيرًا يأتي على أكثر الناس جميع عمره، ولا يرى هذا الماء مجردًا عن الشهوة، بل هي مصاحبة له ضرورة، ويدل لهذا: تفسير عائشة رضي الله عنها الحديث، كما قد رواه ابن المُنْذِر أن المني: هو الماء الأعظم الذي منه الشهوة وفيه الغسل؛ فليحفظ، والله تعالى أعلم.
(٢٣) [باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس]
هذا (باب) حكم (عرق) الآدمي (الجنب) والطاهر، والمحدث، والحائض، والنفساء، والصغير، والكبير، والمسلم، والكافر، والذكر، والأنثى؛ يعني: أن عرق هؤلاء طاهر، (وأن المسلم لا ينجس) عطف على المضاف إليه، والتقدير: وباب أن المسلم لا ينجس، بل هو طاهر وإن كان متصفًا بما ذكرناه، فإذا كان هو طاهرًا؛ فعرقه طاهر ضرورة؛ للزومه له.
قال صاحب «عمدة القاري» : (ولم يبين البخاري ما حكم عرق الجنب، ولا ذكر في هذا الباب شيئًا يطابق هذه الترجمة).
وقال بعضهم: كأن المصنف يشير بذلك إلى الخلاف في عرق الكافر، وقال قوم: إنه نجس بناء على القول بنجاسة عينه.
قلت: (ما أبعد هذا الكلام عن الذوق! فكيف يتوجه ما قاله والمصنف قال: باب عرق الجنب، وسكت عليه، ولم يشر إلى حكمه لا في الترجمة ولا في الذي ذكره في هذا الباب؟
وفائدة ذكر الباب المعقود بالترجمة ذكر ما عقدت له الترجمة وإلا؛ فلا فائدة في ذكرها، ويمكن أن يقال ذكر ترجمتين؛ فالترجمة الثانية تدل على أن المسلم طاهر، ومن لوازم طهارته طهارة عرقه، ولكن هذا مخصوص بعرق المسلم، والحال أن عرق الكافر أيضًا طاهر) انتهى.
قلت: (وقد حاول العجلوني عبارته ورمم عبارة ابن حجر بكلام أخذه من «عمدة القاري» الذي علمته، وزعم أن صنيع المؤلف وابن حجر حسن، وأن في كلام «عمدة القاري» تناقضًا (١) في قوله: (ويمكن...) إلخ وقال: ولم يتعرض ابن حجر في «الانتقاض» لرد الاعتراض؛ لظهوره) انتهى كلامه
قلت: ولا يخفى تعصب هذا القائل، فقد زاد في الطنبور نغمة، فإن كلامه لا فائدة فيه ولا معنى يأويه؛ لخلوه من التحقيق، ولا يخفى أن صنيع المؤلف وابن حجر ليس بحسن أصلًا؛ لأنَّ الترجمة قاصرة؛ حيث إنه لم يبين حكم العرق من الجنب لا في الترجمة ولا في أحاديث الباب، فكيف يقال: إن صنيعه حسن على أن قوله: (وإن المسلم لا ينجس) التي هي الترجمة الثانية، كذلك لا تدل على حكم عرق الجنب؛ لأنَّ المراد بالمسلم: الطاهر لأنَّه المسلم الكامل، ولا ريب أن عرقه طاهر لطهارة بدنه، والجنب خارج عن هذا، فلا بد من بيان حكم عرقه.
ولا دلالة في الترجمة أن المؤلف أشار بالتقييد بـ (المسلم) إلى الخلاف في عرق الكافر كما زعمه ابن حجر؛ لأنَّ مراد المؤلف بالتقييد بـ (المسلم) موافقة لحديث الباب، لا للخلاف في عرقه؛ لأنَّ هذا ظاهر حيث إنا لم ننهَ عن نكاح أهل الكتاب، فدل على طهارته من دليل آخر، كما لا يخفى.
وقوله: (وإن في كلام «عمدة القاري» ...) إلخ ممنوع؛ فإنه لما ذكر ما هو التحقيق من عدم بيان حكم عرق الجنب، ورد كلام ابن حجر؛ ظهر له أن الترجمة يمكن حملها على ما قاله، فهذا ليس يتناقض ما زعمه هذا القائل، ولا يسع أحدًا أن يقوله من ذوي الأفهام كما لا يخفى على أولي الألباب.
وقوله: (ولم يتعرض...) إلخ؛ هذا ظاهر في أن الاعتراض في غاية التحقيق ولو كان غير ذلك؛ لما سكت عليه ابن حجر، فسكوته دليل على أن كلام نفسه غير مرض له؛ لما أنه غير ظاهر، كما لا يخفى؛ فافهم، والله أعلم.
[حديث: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس]
٢٨٣ - وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله)؛ هو المديني (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سَعِيْد القطان (قال: حدثنا حُميد) بضمِّ الحاء المهملة مصغرًا؛ هو المعروف بالطويل، التابعي، مات وهو قائم يصلي (قال: حدثنا بَكر) بفتح الموحدة مكبرًا؛ هو ابن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني البصري التابعي المتوفى سنة بضع ومئة، (عن أبي رافع) واسمه: نُفيع -بضمِّ النون، وفتح الفاء- مصغرًا الصائغ -بالصاد المهملة، وبالغين المعجمة- البصري ارتحل إليها من المدينة، أدرك الجاهلية ولم يرَ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه، قال صاحب «عمدة القاري» : (ومن أجلِّ لطائف هذا الحديث أنه متصل، ورواه مسلم مقطوعًا عن حميد، عن أبي رافع، كذا في طريق الجُلُودي، والجياني، والصواب ما رواه البخاري وغيره عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع، وذكر أبو مسعود وخلف أن مسلمًا أخرجه أيضًا كذلك.
وقال صاحب «التلويح» : قد رأينا من قاله غيرهما، فدل على أن في «مسلم» روايتين).
قلت: ذكر البغوي في «شرح السنة» : (أن مسلمًا أخرجه بإثبات بكر) انتهى كلامه رضي الله عنه.
(أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم لقيه)؛ أي: اجتمع به من اللقاء؛ وهو الاجتماع؛ أي: لقي أبا هريرة وهو يمشي (في بعض طريق المدينة) المنورة، كذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية كريمة، والأَصيلي: (طرق)؛ بالجمع، وفي رواية أبي داود، والنسائي: (لقيه في بعض طريق من طرق المدينة)، كذا في «عمدة القاري».
وزعم العجلوني أن رواية أبي داود موافقة لرواية الأَصيلي.
قلت: وهو مردود فأين التوافق؟ بل فيه تخالف؛ لأنَّ الأولى: (في بعض طريق المدينة)، وللأَصيلي: (في بعض طرق المدينة)، ولأبي داود: (في بعض طريق من طرق المدينة)؛ فليحفظ.
(وهو جنب) جملة اسمية محلها النصب على الحال من الضمير المنصوب في (لقيه)، يقال: أجنب الرجل وهو جنب، وكذا الاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال ابن دريد: (وهو أعلى اللغات، وقد قالوا: جنبان وأجناب، ولم يقولوا: جنبه)، وفي «المنتهى» : (رجل جنب، وامرأة جنب، وقوم جنب، وجنبون، وأجناب)، وفي «الصحاح» : (أجنب الرجل وجنُب أيضًا؛ بضمِّ النون)، وفي «الموعب» عن الفراء وقطرب: (جنِب الرجل وجنُب؛ بكسر النون وضمها لغتان)، وقال في «المغرب» : (يقال من الجنابة: أجنَب الرجل وجنَِب؛ بفتح النون وكسرها، وجنب ويجنب، لا يقال عن العرب غيرها، وحكى بعضهم: جنُب؛ بضمِّ النون، وليس بالمشهور)، وفي «الاشتقاق» : (أجنب الرجل؛ لأنَّه يجانب الصَّلاة)، وقال أبو منصور: (لأنَّه نهي أن يقرب مواضع الصَّلاة)، وقال القتبي: (سمي بذلك لمجانبته الناس، وبعده منهم حتى يغتسل)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، وأراد أبو هريرة نفسه لرواية أبي داود: (وأنا جنب)، (فانْخَنست)؛ بالنون الساكنة، ثم خاء معجمة مفتوحة، ثم نون، ثم سين مهملة، وهي رواية الكشميهني، والحمُّوي، وكريمة؛ ومعناه: تأخرت، وانقبضت، ورجعت، واستخفيت، وهو لازم ومتعد؛ ومنه: خنس الشيطان.
الرواية الثانية: (فاختنست)؛ مثل الرواية الأولى في المعنى، غير أن اللفظ في الرواية الأولى من باب (الانفعال)، وفي هذه الرواية من باب (الافتعال).
الثالثة: (فانبجست)؛ بالموحدة، والجيم، وكذا هي في رواية الترمذي؛ ومعناه: اندفعت، وانفجرت؛ ومنه قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف: ١٦٠]؛ أي: جرت واندفعت، وهي رواية ابن السكن أيضًا.
الرابعة: (فانْتَجست)؛ بفوقية مفتوحة بعد النون الساكنة، فجيم؛ من النجاسة من باب (الافتعال)؛ والمعنى: اعتقدت نفسي نجسًا، وهي رواية الأَصيلي، وأبي الوقت، وابن عساكر.
الخامسة: (فانتجشت)؛ بالشين المعجمة، من النجش؛ وهو الإسراع.
السادسة: (فانبخست)؛ بالموحدة، والخاء المعجمة، والسين
(١) في الأصل: (تناقض)، ولعل المثبت هو الصواب.