للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأجاب بعض: بأن الصلاة أُمُّ الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها الكائن عن اليسار، قال إمامنا الشَّارح: (وفيه نظر؛ لأنَّه ولو لم يكتب؛ لا يغيب) انتهى.

قلت: ويدل عليه قوله عليه السَّلام: «إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا حال الجماع ودخول الخلاء»، على أنَّه لكاتب السيئات دخل في الصلاة، كما أنَّ لكاتب الحسنات دخلًا (١) فيها من حيث إنَّ المصلي يحصل له تفكر في أمور الدنيا غالبًا، خصوصًا في أهل زماننا، فإن تفكر في صلاته أنَّه يفعل الأمر القبيح أو المكروه أو المحرم؛ يخرج من فمه ريح منتنة، فيعلم الملَك أنَّه قد هم بمعصية، فيكتبها، وإن تفكر أنَّه يفعل الأمر الحسن؛ يخرج من فمه ريح طيبة، فيعلم الملَك أنَّه قد همَّ بطاعة، فيكتبها، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث، ويدل عليه الحديث السابق آنفًا، فإنَّه يقتضي عدم المفارقة أصلًا إلا في هذين الموضعين، وهذا يدل صريحًا أنَّ الملكين لا يفارقان العبد أصلًا إلا في الموضعين؛ فافهم.

(وليبصق عن يساره)؛ لأنَّ اليمين لها فضل على اليسار في الجملة، (أو تحت قدمه)؛ بالإفراد؛ أي: اليسرى، كما قيَّدَها في حديث أبي سعيد السابق، وهذا صريح في أنَّه كان في المسجد؛ بدليل قوله في أول الحديث: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة»، والقيام إليها لا يكون إلا في المسجد، ويدل عليه أيضًا ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن مرفوعًا: «من تنخع في المسجد، فلم يدفنه؛ فسيئة، وإن دفنه؛ فحسنة»، وروى مسلم عن أبي ذر مرفوعًا: «وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخامة تكون في المسجد لا تدفن»، قال القرطبي: (فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل به، وبتركها غير مدفونة) انتهى.

وبهذا تعلم سقوط ما زعمه النووي وتبعه القسطلاني أنَّ هذا في غير المسجد، أمَّا المصلي في المسجد؛ فلا يبزق إلا في ثوبه؛ لأنَّ هذا تخصيص بلا مخصص، وتقييد الإطلاق بشيء مخالف؛ لظاهر حديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة الدالة صريحًا على أن ذلك كان في المسجد؛ فافهم.

وقول القسطلاني معلِّلًا بأنَّه قد قال: (إنه خطيئة، فلم يأذن فيه)، يرده: أنه قد قال: (وكفارتها دفنها)؛ كما في حديث أنس في الباب قبله، وقد ترجم له المؤلف بـ (باب كفارة البزاق في المسجد)، ولا يلزم من كونها خطيئة عدم الإذن بفعلها في المسجد؛ لأنَّ قوله: (وكفارتها دفنها) دليل على الإذن فيها، وأنها إذا دفنت؛ تخرج عن كونها خطيئة، فقد حفظ شيئًا، وغاب عنه أشياء على أن قوله: (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه) دليل صريح على الإذن بفعلها، ولو لم يأذن بها؛ لم يجعل لها كفارة، ويدل عليه قوله: (فيدفنها)؛ أي يغيبها بتراب المسجد، ورمله، وحصائه، وبذلك تخرج عن كونها خطيئة، وقوله: (فيدفنُها)؛ بالرفع، وهو الذي في «الفرع» على أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو يدفنها، ويجوز النصب؛ لأنَّه جواب الأمر، ويجوز الجزم عطفًا على الأمر، وتأنيث الضمير فيه على تأويل البصقة التي يدل عليها قوله: (وليبصق)، وقيل: إنَّما لم يغطها (٢)؛ لأنَّ التغطية يستمر بها الضرر؛ إذ لا يؤمن أن يجلس غيره عليها، فتؤذيه، بخلاف الدفن؛ فإنَّه يفهم منه التعميق في باطن أرض المسجد، ويؤيده ما رواه الطبراني: «فليحفر وليدفنه»، وعند ابن أبي شيبة مرفوعًا: «إذا بزق في المسجد؛ فليحفر وليمعن»، وفي «صحيح ابن خزيمة» : «فليبعد»، لا يقال: إن الباب معقود على دفن النخامة، والحديث يدل على دفن البزاق؛ لأنَّا نقول: قد قلنا فيما مضى: أنه لا تفاوت بينهما في الحكم، ومطابقته للترجمة ظاهرة من قوله: (فيدفنها)، كذا قرره إمام الشَّارحين.

قلت: ومثل دفنها بل أبلغ إلقاؤها في نعله أو بابوجه، كما هو العادة في زماننا، فإن ذلك مثل بزقه في ثوبه؛ لأنَّ مآله الخروج بها من المسجد، ثم دفنها ينبغي أن يُقيَّد بكون البزاق لم يخالطه نجس؛ كَدَمٍ من بين أسنانه، فلو تنجس؛ ينبغي أن يخرجه من المسجد؛ لأنَّه نجاسة، وقد يقال: لما كان الدفن مستلزم للحفر والتعميق، وهو يستلزم عدم ظهوره، وعدم إيذاء أحد به؛ لا بأس به؛ لأنَّه يكون في باطن أرض المسجد، والسجود على أعلاه لا يضر الصلاة، نعم، لو كان المسجد لم يوجد فيه تراب، أو رمل، أو حشيش، ونحوها؛ فإن كان البزاق باقيًا على طهارته؛ فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها، وإن كان متنجسًا؛ ينبغي أن يتعين عليه إخراجه من المسجد؛ لأنَّ في إبقائه إيذاء للمسجد والمصلين بالنجاسة، وهو غير جائز، ومثل دفن البزاق الطاهر دلكه في الحشيش، أو الحصير، أو غيرهما، والله تعالى أعلم.

(٣٩) [باب: إذا بَدَرَهُ البزاق فليأخذ بطرف ثوبه]

هذا (باب)؛ بالتنوين: (إذا بدره)؛ بدال وراء مهملتين؛ أي: غلب على من كان في المسجد (البُزَاق)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الزاي، ولم يقدر على دفعه؛ (فليأخذ)؛ بدون ضمير، والأولى أن يلحقه ضميرٌ مذكرٌ (٣)؛ ليعود على البزاق، أو ضميرٌ مؤنثٌ (٤)؛ ليعود على البزقة المدلول عليها قوله: (إذا بدره البزاق) (بطرف ثوبه) قد يقال: فيه إتلاف المال، وهو غير جائز، وقد يجاب: بأن الثوب يغسل بخلاف المسجد، فإنَّه يدل على الاستخفاف، كما سيأتي.

وقال إمام الشَّارحين: (لا يقال: بدره، بل يقال: بدر إليه)، وقال الجوهري: (بَدَرْتُ إلى الشيء، أَبْدُرُ، بُدورًا: أسرعت، وكذلك: بادرت إليه، وتَبادَرَ القوم: أسرعوا) انتهى.

قلت: وهذا اعتراض على المؤلف في قوله: (إذا بدره)؛ لأنَّه مخالف للغة، وكذلك أنكره، واعترض عليه السروجي، وأجاب عن المؤلف ابن حجر، وتبعه البرماوي، والدماميني: (بأنَّه من باب المُغَالبة؛ أي: بادر البزاق، فبدره؛ أي: غلبه في السَبْق) انتهى.

قلت: وهذا الجواب ليس لابن حجر، كما يُتوهم، وإنما هو للزركشي، فنسبه ابن حجر لنفسه، وعلى كلٍّ؛ فهو مردود؛ لأنَّ إمام الشَّارحين قد رد على ابن حجر كعادته، فقال: (هذا كلام من لم يمس شيئًا من علم التصريف، فإن في باب المغالبة يقال: بادرني، فبدرته، ولا يقال: بادرت كذا، فبدرني، والفعل اللازم في باب المغالبة يجعل متعديًا بلا حرف صلة، يقال: كارمني فكرمته، وليس ههنا باب المغالبة حتى يقال: بدره) انتهى.

[حديث: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه]

٤١٧ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مالك بن إسماعيل) هو أبو غسان النهدي الكوفي (قال: حدثنا زُهير)؛ بضمِّ


(١) في الأصل: (دخل)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (يغطيها)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (ضميرًا مذكرًا)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (ضميرًا مؤنثًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>