للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وذلك؛ لقوله عليه السَّلام: «من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله، فإنما التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال»، رواه سهل بن سعد، أخرجه الحافظ الطحاوي عنه، وأخرجه البخاري مطولًا، ولفظه: «أيها الناس؛ ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟! إنَّما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل: سبحان الله! فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت»، وأخرجه مسلم وأبو داود أيضًا، وقوله: «من نابه»؛ أي: من نزل به شيء من الأمور المهمة، والمراد من التصفيق: ضرب ظاهر إحدى يديه على باطن الأخرى، وقيل: بإصبعين من أحدهما على صفحة الأخرى؛ للإنذار والتنبيه، وقال الحافظ الطحاوي: (دل هذا الحديث على أن كلام ذي اليدين لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما كلمه به في حديث عمران وأبي هريرة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة) انتهى.

قلت: فحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم، فإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام؛ فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث من أدركه الفجر جنبًا، فلا صوم له، وكان كثير الإرسال؛ فافهم.

فإن قلت: قد جرى الكلام في الصلاة، وقد ورد في الحديث: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته؛ فليقل سبحان الله!»، فلمَ لم يسبحوا؟

قلت: لأنَّه عليه السَّلام في ذلك الوقت لم يأمرهم بالتسبيح؛ لأنَّ حديث التسبيح متأخر عن إباحة الكلام في الصلاة، ويحتمل أنَّهم توهموا أن الصلاة قصرت أو زادت، وقد جاء في الحديث قال: «وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟»، فلم يكن بد من الكلام لأجل ذلك، ثم حرم الكلام في الصلاة بعد ذلك، واستقر الحال على تحريمه، وصار التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وما وراء ذلك تعصب وعناد؛ فافهم.

فإن قلت: حديث الباب لا يدل على تحريم الكلام في الصلاة؛ لأنَّه قال: «وما ذاك؟».

قلت: لأنَّ الحديث كان في صدر الإسلام، وكان الكلام فيها مباحًا، وقد ثبت تحريم الكلام في حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم بعد ذلك، فالحديث منسوخ، كما قدمناه.

وزعم الكرماني (فإن قلت: كيف رجع إلى الصلاة بانيًا عليها، وقد تكلم بقوله: «وما ذاك؟»؟

قلت: لأنَّه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو أنه خطاب للنبيِّ عليه السَّلام وجواب، وذلك لا يبطل الصلاة، أو كان قليلًا وهو عليه السَّلام في حكم الساهي أو الناسي؛ لأنَّه كان يظن أنه ليس في الصلاة).

ورده إمام الشَّارحين فقال: مذهب إمامه: أن الكلام في الصلاة إذا كان ناسيًا أو ساهيًا لا يبطلها، فلا فائدة حينئذ في قوله: (إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة)، والجواب الثاني: لا يتمشى بعد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والجواب الثالث: غير موجه؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «وما ذاك؟» غير قليل، على ما لا يخفى، انتهى.

قلت: وقد أباح إمامهم الكلام القليل دون الكثير، وقوله عليه السَّلام: «وما ذاك؟» كثير؛ لأنَّ الكثير عندهم ما زاد على ثلاثة أحرف، وما دونها أو هي؛ فقليل، فلا دليل لهم من الحديث؛ فافهم. ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (فثنى رجليه، واستقبل القبلة)؛ لأنَّه استقبلها بعد أن سلم سلام الخروج من الصلاة، وفيه دليل على جواز النسخ، وجواز توقع الصحابة في ذلك يدل عليه استفهامهم حيث قيل له عليه السَّلام: (أحدث في الصلاة شيء؟) والله تعالى أعلم.

(٣٢) [باب ما جاء في القبلة]

هذا (باب: ما جاء في) أمر (القبلة)، وهو خلاف ما تقدم قبل هذا الباب، فإن ذاك في حكم التوجه إلى القبلة، وهذا في حكم من سها فصلى إلى غير القبلة، وأشار إلى حكم هذا بقوله: (ومن لم ير)، هذه رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر والأصيلي، وفي رواية المستملي: (ومن لا ير)، (الإعادة) وهو عطف على قوله: (في القبلة)؛ أي: وباب: ما جاء فيمن لم ير إعادة الصلاة (على من سها) عن التوجه إلى القبلة، (فصلى إلى غير القبلة) بأن شرق أو غرب أو نحوهما، وزعم الكرماني: أن الفاء في (فصلى) تفسير لقوله: (سها)، فهي تفسيرية.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (وفيه بعد، والأولى أن تكون الفاء للسببية؛ كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: ٦٣]، ولو قال: كـ «الواو» لكان أحسن، كما لا يخفى) انتهى.

ومقصود الإمام البخاري في هذا الباب: بيان أن الرجل إذا اجتهد في القبلة، فصلَّى إلى غيرها؛ هل يعيد أم لا؟

فذهب الإمام الأعظم وأصحابه: إلى أنَّه لا يعيد صلاته؛ لأنَّه قد أتى بما في وسعه، فصلاته صحيحة، وبه قال الثوري، والنخعي، والشعبي، وعطاء، وابن المسيب، وحماد، وهو مذهب المؤلف، وهو رواية عن مالك، وهو قول الحسن والزهري.

يدل لهذا ما رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث عامر بن ربيعة أنَّه قال: كنَّا مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في سفر، فغيَّمت السماء، وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلمَّا (١) طلعت الشمس؛ إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: ١١٥]، وروى البيهقي في «المعرفة»، من حديث جابر قال: إنَّهم صلوا في ليلة مظلمة؛ كلُّ رجل منهم على حياله، فذكروا ذلك للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «مضت صلاتكم»، ونزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}.

وقول الترمذي: (ليس إسناده بذاك)، وقول البيهقي: (حديث جابر ضعيف) : ممنوع؛ لأنَّه رُوي حديث جابر من ثلاث طرق؛ أحدها: أخرجه الحاكم في «المستدرك»، عن محمد بن سالم، عن عطاء بن أبي رباح عنه، ثم قال: (هذا حديث صحيح)؛ فافهم، وروي عن مالك فيمن صلى إلى غير القبلة، والحالة هذه: أنه يعيد في الوقت استحسانًا، وقال المغيرة: (يعيد أبدًا)، وعن حميد بن عبد الرحمن، وطاووس، والزهري: (يعيد في الوقت)، وزعم الشافعية: (إن فرغ


(١) في الأصل: (فما)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>