للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

رأيته يبول قاعدًا)، أخرجه البستي في «صحيحه»، ورواه الترمذي في «صحيحه» بلفظ: (ما بال قائمًا منذ أنزل عليه القرآن)، ومنها: حديث بريدة، رواه البزار بسند صحيح: أن رسول الله عليه السلام قال: «ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائمًا...»؛ الحديث؛ ومنها: حديث عمر، أخرجه البيهقي من حديث ابن جريج قال عمر: رآني رسول الله عليه السلام أبول قائمًا، فقال: «يا عمر؛ لا تبل قائمًا»، قال: فما بلت قائمًا بعد، ومنها: حديث جابر، أخرجه البيهقي أيضًا من حديث عدي بن الفضل، عن جابر قال: (نهى رسول الله عليه السلام أن يبول الرجل قائمًا).

قلت: أما الجواب عن حديث عائشة؛ فإنه مسند إلى علمها فيُحْمَلُ على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت؛ فلا تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة رضي الله عنه وهو من كبار الصحابة، وأيضًا يمكن أن يكون قول عائشة: (ما بال قائمًا)؛ يعني: في منزله، ولا اطلاع لها على ما في خارجها، وقول أبي عوانة في «صحيحه»، وابن شاهين: (إن حديث حذيفة منسوخ بحديث عائشة) ممنوع، والصواب أنه لا يقال: إنه منسوخ؛ لأنَّ كلًّا من عائشة وحذيفة أخبر بما شاهده، فدل على أن البول قائمًا وقاعدًا يجوز، ولكن كرهه العلماء قائمًا؛ لوجود أحاديث النهي وإن كان أكثرها غير ثابت، وأما حديث بريدة؛ فقال الترمذي: (إنه غير محفوظ)، لكن فيه نظر؛ لأنَّ البزار أخرجه بسند صحيح كما ذكرنا، وأما حديث عمر؛ فضعيف؛ لأنَّ ابن جريج رواه عن عبد الكريم بن أبي أمية، وهو ضعيف، وقال الترمذي: إنَّما رفعه عبد الكريم، وقد ضعفه أيِّوب، وتكلم فيه، وروى عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر: ما بلت قائمًا منذ أسلمت، وهذا أصح من حديث عبد الكريم، وأما حديث جابر؛ ففي روايته عدي بن الفضل، وهو ضعيف، وقول أبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي: (حديث حذيفة فاحش منكر لا نراه إلا من قبل بعض الزنادقة)؛ فمردود؛ لأنَّه كلام سوء لا يساوي سماعه وهو في غاية الصحة، كذا قرره في «عمدة القاري».

قال في «شرح المشكاة» : (قيل: النهي للتنزيه، وقيل: للتحريم)، وذكر في «البناية شرح الهداية» عن الحافظ الطحاوي: (أنه لا بأس بالبول قائمًا) انتهى.

والحاصل: أن البول قائمًا مكروه عندنا، والتعبير بـ (لا بأس) يفيد أن تركه أولى، وهو مفاد كراهة التنزيه، وكذا يُكْرَهُ البول في محل التوضؤ، وكذا في محل الاغتسال؛ لقوله عليه السلام: «لا يبولنَّ أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه أو يتوضأ، فإن عامة الوسواس منه»، قال ابن الملك: لأنَّ ذلك الموضع يصير نجسًا فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ حتى لو كان بحيث لا يعود منه رشاش أو كان فيه منفذ بحيث لا يثبت فيه شيء من البول؛ لم يكره البول فيه؛ لأنَّه لا يجره إلى الوسوسة حينئذ؛ لأمنه من عود الرشاش إليه في الأول، ولطهر أرضه في الثاني بأدنى ماء طهور يمر عليها، كذا في «شرح المشكاة».

وكذا يكره أن يبول أو يتغوط في الماء ولو كان جاريًا والكراهة للتنزيه، وكذا يكره أن يبول أو يتغوط في الماء الراكد، والكراهة للتحريم، كذا في «البحر»، وقيل: إنه في الراكد القليل يحرم؛ لأنَّه ينجسه وتنجيس الطاهر حرام، وفي الكثير يكره تحريمًا، والتغوط كالبول، بل هو أقبح، أفاده المحشي، وكذا يُكْرَهُ البول مضطجعًا أو متجردًا من ثوبه بلا عذر، وفي أسفل الأرض إلى أعلاها، كما في «الدر»، وكذا يُكْرَهُ في الماء بالليل مطلقًا؛ خشية أن يؤذيه الجن؛ لما قيل: إن الماء بالليل مأواهم، انتهى.

وكذا يُكْرَهُ البول والتغوط بقرب بئر، أو نهر، أو حوض، أو مصلَّى عيد، أو قافلة، أو خيمة، أو بين الدواب، أو مصلَّى جنازة، والطريق، والظل، والجحر، وتحت شجرة مثمرة، أو مكان معد لنزهة الناس، كذا في «منهل الطلاب»، وهذا إذا كان مباحًا، أما إذا كان مملوكًا؛ فيحرم فيه قضاء الحاجة بغير إذن مالكه، كما في «شرح المشكاة».

وفي الحديث دليل على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة؛ لما فيه من الضرر، كما في «عمدة القاري»، قلت: فإن داء الحصبة يحصل منه غالبًا، وربما يورث داء الاستسقاء؛ لأنَّه لحصره ينفذ البول إلى الجلد فيعفن ويحصل المرض، ويقاس على هذا التغوط، فإنه كذلك يضر البدن، فمدافعته مكروهة؛ لأنَّه يحصل منه وجع الرأس بسبب البخار الصاعد منه إلى الدماغ، ويورث وجع الظهر، وغير ذلك كما بينته في «منهل الطلاب».

وفي الحديث أيضًا جواز البول بالقرب من الديار وجواز طلب البائل من صاحبه الماء للوضوء، وخدمة المفضول للفاضل، والله تعالى أعلم، اللهم فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.

(٦١) [باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط]

هذا (باب البول)؛ أي: حكم بول الرجل (عند صاحبه)؛ أي: رفيقه (و) حكم (التستر)؛ أي: تستره (بالحائط)؛ أي: الجدار، فالألف واللام في (البول) بدل من المضاف إليه وهو كما قدرنا، والضمير في (صاحبه) يرجع إلى المضاف إليه المقدر؛ وهو الرجل البائل، كذا قاله في «عمدة القاري»، وتبعه القسطلاني وقد حاول العجلوني العبارة كما هي عادته؛ أي قال: أي: جواز البول عند صاحب البائل المدلول عليه بالبول، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الركاكة والمحاولة؛ فافهم.

[حديث حذيفة: رأيتني أنا والنبي نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط]

٢٢٥ - وبه قال: (حدثنا عثمان ابن أبي شيبة) نسبه لجده؛ لشهرته به، وإلا فاسم أبيه محمَّد بن إبراهيم، الكوفي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا جرير)؛ هو ابن عبد الحميد، (عن منصور)؛ هو ابن المعتمر، (عن أبي وائل)؛ هو شقيق الكوفي، (عن حذيفة)؛ هو ابن اليمان رضي الله عنه (قال) أي: حذيفة: (رأيتُني)؛ بضمِّ المثناة الفوقية للمتكلم؛ ومعناه: رأيت نفسي؛ بمعنى: أبصرتها، وبهذا التقدير يندفع سؤال من يقول: كيف جاز أن يكون الفاعل والمفعول عبارة عن شيء واحد؟ وهذا التركيب جائز في أفعال القلوب؛ لأنَّه من خصائصها، ولا يجوز في غيرها، كذا في «عمدة القاري»، وهذا القائل تبعه القسطلاني وهو وهم، وقال العجلوني: (وقد تجعل منها وإن كان منشأ المعرفة القلبية الإبصار، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تقدير نفسي)، قلت: وفيه نظر فإنه لا بد من تقدير نفسي حتى يصح التركيب والتقدير؛ لأنَّ منشأ هذه الأفعال القلبية الإبصار وهو مفقود هنا؛ فليحفظ (أنا والنبي) ولفظ (أنا) للتأكيد، ولصحة عطف (النبي) على الضمير المنصوب على المفعولية؛ والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، وقال الكرماني: (بنصب «النبي»؛ لأنَّه عطف على المفعول لا على الفاعل، وعليه الرواية)، قال في «عمدة القاري» : (ويجوز رفع «النبي»؛ لصحة المعنى عليه، ولكن إن صحت رواية النصب؛ يقتصر عليها)، قلت: ونقل القسطلاني عن «فرع اليونينية» : أن النصب والرفع ثابت في الرواية، فالرفع عطف على ضمير الرفع في (رأيتني) لا على (أنا) كما توهمه القسطلاني؛ فليحفظ.

وقوله: (صلَّى الله عليه وسلَّم) : جملة خبرية لفظًا إنشائية معنًى، وجملة: (نتماشى)؛ بالنون أوله، والشين المعجمة المفتوحة في محل نصب على الحال من الفاعل والمفعول معًا؛ والتقدير: رأيت نفسي ورأيت النبي حال كونهما متماشيين، (فأَتى)؛ بفتح الهمزة؛ أي: النبي عليه السلام (سُباطة)؛ بضمِّ السين المهملة؛ أي: كناسة (قوم) من الأنصار، وبه علم أن هذه القضية كانت بالمدينة كما سبق (خلف حائط)؛ بالنصب على الحال من (سباطة)، والحائط: الجدار، من الحوط، فأصله واوي، وقدمنا أنه يجيء بمعنى البستان من النخل إذا كان محوطًا؛ فافهم.

(فقام)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (كما يقوم أحدكم)؛ إذا أراد أن يقضي حاجته، (فبال)؛ أي: شرع في البول،

<<  <   >  >>