للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

صليت على الطنفسة، فإنَّه يكون المراد منه: أنَّه قد صلى فوقها، وهو المتعين في اللُّغة، فما زعمه خلاف اللَّفظ واللُّغة، كما لا يخفى، ورواية مسروق لا تدل لما زعمه؛ لاختلاف اللَّفظ متنًا وسندًا ورجالًا، وهو يدل على أنَّها قصة أخرى غير هذه، ولو كانت قصة واحدة؛ لكان البخاري ذكرها ههنا، واستدل بها لما ترجمه، ولكن لما كان مراد البخاري بترجمته: الصلاة فوق السرير؛ ذكر رواية الأسود واقتصر عليها؛ لما أنَّها مطابقة لترجمته، بخلاف رواية مسروق، فإنَّه لا تدل لما ترجم له فافترقا.

وما زعمه من أنَّ الكلام في السترة غير وارد؛ لأنَّ هذا المذكور حكم من أحكام الصلاة، والمؤلف بصدد أحكام الصلاة وما هنا منها، فبين في هذا الباب أنَّ الصلاة كما تجوز على الأرض كذلك تجوز على السرير؛ أي: فوقه؛ لأنَّ السرير له سترة في جوانبه، وهي تكفي المصلي، وبهذا فهو داخل تحت السترة، كما لا يخفى ورواية ابن عساكر تعين ما ذكرناه.

وما زعمه من الاحتمال بعيد جدًّا؛ لأنَّ (على) أصل معناها: الاستعلاء، وورودها بمعنى (إلى) خلاف معناها المذكور في الفصيح، كما لا يخفى، فما زعمه رجم بالغيب، وهو عليه معيب؛ فافهم، والله تعالى أعلم.

(١٠٠) [باب يرد المصلي من مر بين يديه]

هذا (بابٌ) بالتنوين (يَرُدُّ المصلي) ذكرًا كان أو أنثى (مَنْ) أي: الشخص الذي (يمر بين يديه)؛ أي: سواء كان المار ذكرًا أو أنثى آدميًا أو غيره، وهل يرده إذا مر بين يديه في موضع سجوده أو يرده مطلقًا؟ وهل له حد معلوم؟ وهل الرد واجب أم سنة أم مستحب؟ وهل هو مقيد بمكان مخصوص أو في جميع الأمكنة؟ وسيأتي ذلك مفصلًا إن شاء الله تعالى.

ومنه أنَّ اتخاذ السترة للمصلي مستحب، وهو مذهب الإمام الأعظم، وبه قال مالك بن أنس، ومحمَّد بن إدريس، وقال أحمد ابن حنبل: إنَّه واجب، وروي عن مالك: أنَّه يجوز تركه، وقال عطاء مثله، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

(وردَّ ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما؛ أي: المار بين يديه وهو في الصلاة، مما وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة في «مصنفهما»، وذكرا أنَّ المار المذكور هو عَمرو بن دينار حال كون ابن عمر (في التشهد)؛ فالجار والمجرور حال؛ أي: حال كونه في تشهد الصلاة خارج الكعبة، وفيه المطابقة للتَّرجمة؛ لأنَّه ردَّه وهو في الصلاة.

وقوله: (وفي الكعبة) : عطف على مُقدَّر؛ أي: وردَّ ابن عمر المار بين يديه عند كونه في الصلاة في داخل الكعبة وفي غيرها أيضًا، ويحتمل أن يراد به كون الرد في حالة واحدة؛ وهي جمعه بين كونه في التشهد وفي الكعبة، وعليه فلا حاجة إلى المقدر، قاله الكرماني وإمام الشَّارحين.

قلت: لكن ظاهر اللَّفظ أنَّه وقع منه الرد في حالتين؛ أحدهما: في تشهد الصلاة خارج الكعبة، وثانيهما: في الصلاة داخل الكعبة، وهو ما دل عليه رواية أبي نعيم وابن أبي شيبة؛ لأنَّهما وصلا الأثر المذكور في كتاب «الصلاة» لأبي نعيم شيخ المؤلف من طريق صالح بن كيسان قال: (رأيت ابن عمر يصلِّي في الكعبة، فلا يدع أحدًا يمر بين يديه يبادره، قال: يرده)، وروي من طريق عمرو بن دينار قال: (مررت بابن عمر بعدما جلس في آخر صلاته حتى أنظر ما يصنع، فارتفع من مكانه فدفع في صدري)، وفي رواية لأبي نعيم: (فانتهرني بتسبيحة)، وروى ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن دينار قال: (مررت بين يدي ابن عمر وهو في الصلاة، فارتفع من قعوده، ثم دفع في صدري)، فهذا يدل على أنَّه وقع ذلك مرتين في حالتين، لا ما زعمه الكرماني؛ فافهم.

وفي حديث يزيد الفقير شيخ الإمام الأعظم قال: (صليت إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلًا أكرَه أن يمر بين يديه منه).

ومطابقة الأثر للتَّرجمة ظاهرة، بقي أنَّه يدل على أنَّ المرور بين يدي المصلي ولو كان داخل الكعبة ممنوع، لكن حديث يزيد الفقير يدل على أنَّ ابن عمر كان يرد المار خارج الكعبة، وروى أحمد وأبو داود عن المطلب بن أبي وداعة: (أنَّه رأى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يصلِّي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة)، فهذا يدل على أنَّه لا يمنع المار داخل الكعبة؛ لأنَّها جميعها قبلة كما قدمنا، وعلى هذا لا يمنع المار داخل الكعبة، وخلف المقام، وحاشية المطاف، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابهرضي الله عنهم، والجمهور.

وقال الإشبيلي في «الجمع بين الصَّحيحين» : كذا وقع: (وفي الكعبة)، وقال ابن قرقول: وردَّ ابن عمر في التشهد وفي الركعة، وقال القابسي: (وفي الركعة) بدلًا من (الكعبة) هو الصَّواب، انتهى.

قلت: لكن رواية أبي نعيم أنَّه في الكعبة، وكذلك صرح الإشبيلي، كما سبق، وهي رواية الجمهور، على أنَّه ليس في رواية أبي نعيم ولا ابن أبي شيبة ذكر الركعة، بل الذي فيهما ذكر الكعبة والتشهد؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أن رواية الجمهور متجهة، وتخصيص الكعبة بالذكر؛ لئلا يخيل أنَّه يغتفر فيها المرور؛ لكونها محل المزاحمة، انتهى.

وردَّه إمامنا الشَّارح، فقال: (الواقع في نفس الأمر عن ابن عمر في الرد في غير الكعبة وفي الكعبة أيضًا، فلا يقال فيه التخصيص، والتعليل فيه بكون الكعبة محل المزاحمة غير موجَّه؛ لأنَّ في غير الكعبة أيضًا توجد المزاحمة سيما في أيام الجمع في الجوامع ونحو ذلك) انتهى.

واعترضه العجلوني تعصبًا، فزعم بأن المزاحمة في الكعبة كل يوم لأجل الزائرين، وكون الواقع في نفس الأمر كلا الأمرين لا ينافي التخصيص، انتهى.

قلت: هو تعصب بارد من ذهن شارد؛ لأنَّ رواية الجمهور: وقوع الرد من ابن عمر في حالتين: في الكعبة وخارجها، كما دل عليه رواية أبي نعيم وابن أبي شيبة، وعليه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص بالكعبة وما هي إلا غير مفيدة، وقد يدعى التخصيص على رواية (الركعة) بدل (الكعبة)، فيقال: إنَّما خص الكعبة بالذكر؛ لأنَّ جميعها قبلة، فلا يحتاج فيها إلى سترة، وهو غير مراد هنا.

وما زعمه من أن المزاحمة في الكعبة كل يوم؛ باطل؛ لأنَّ أيام المزاحمة ليست على الدوام، بل في بعض أيام الموسم على أنَّه قد لا تفتح الكعبة أصلًا، وقد تفتح في غير أيام الموسم، فليست كل يوم توجد المزاحمة كما زعمه، على أنَّه قد توجد المزاحمة في الجامع أكثر من الكعبة بكثير، والزائرون لا يوجد لهم الدخول إلا في بعض الأحيان في وقت غفلة الناس ليس في كل يوم (١)، وكون الواقع في نفس الأمر كلا الأمرين لا ينافي، بل هو مَنَافٍ كما ذكرنا؛ فافهم.

(وقال)؛ أي: ابن عمر أيضًا، مما وصله عبد الرزاق عنه، ولفظه عن ابن عمر قال: (لا تدع أحدًا يمر بين يديك، وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله؛ فقاتله)، ولفظ هنا موافق لرواية الكشميهني، كذا في «عمدة القاري» : (إن أبى) بكسر همزة (إن)، وفتحها في (أبى) مع فتح الموحَّدة؛ أي: إن امتنع المار من عدم المرور بكل وجه (إلا أن تقاتله)؛ بمثناة فوقية أوله للمخاطب؛ أي: إلا أن يقاتل المصلي المارَّ؛ (قاتله)؛ أي: ادفعه (٢) بالسُّهولة أو بالقهر لا أنَّه يجوز قتله، فإن دم المسلم مضمون، والمقصود المبالغة في كراهة المرور كما وَرَد في الفصيح، قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٧]؛ معناه: ومن لم يحج، ومنه الحديث: (من استطاع منكم الحج ولم يحج، فإن تهيَّأ أنْ يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، فلا يسع أحدًا أن يحكم على من لم يحج بالكفر بالإجماع، فالمراد به: التغليظ، وههنا مثله، وهذا مذهب الإمام الأعظم والجمهور، وشذت طائفة كما يأتي بيانه؛ فافهم.

قال الشَّارح: وقوله: (قاتله) على وجهين: أحدهما: أن يكون لفظ (قاتَلَه) بصيغة الفعل الماضي، وهذا عند كون لفظ: (إلا أن تقاتِلَه) بصيغة الفعل المضارع المعلوم، والضمير المرفوع فيه يرجع إلى المار الذي هو فاعل لفظة: (أبى)، والمنصوب يرجع إلى المصلي، والضمير المرفوع في (قاتَلَه) يرجع إلى المصلي، والمنصوب يرجع إلى المار.

والوجه الثاني: أن يكون لفظة: (إلا أن تقاتِلَه) بصيغة المخاطب؛ أي: إلا أن يقاتل المار، وقوله: (قاتِلْه) رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (فقاتِلْه)؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون اللَّام على صيغة الأمر للحاضر.

فإن قلت: لفظة: (قاتِلْه) في الوجه الثاني جملة أمرية، والجملة


(١) تكرر في الأصل: (يوم).
(٢) في الأصل: (دفعه)، والمثبت موافق لما شرح عليه المصنف.

<<  <   >  >>