وقال ابن بطال:(الصَّحيح من مذهب مالك أنه لا يصلي، ولا إعادة عليه قياسًا على الحائض) انتهى.
قلت: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا قياسٌ مع الفارق، فإن الصَّلاة لا بد من أدائها أداء أو قضاء، وهذا العذر الذي حصل لهم مِنْ قِبَلِ أنفسهم؛ لأنَّهم لو جدُّوا السَّير؛ لَوصلوا للماء وتطهروا به بخلافِ الحائض، فإن عذرها جاء من قِبَلِ الخالق عزَّ وجل، فكيف يُقَاسُ العذر من المخلوق على العذر من الخالق؟ ولهذا قال أبو عمر: كيف أقدم أن أجعل هذا صحيحًا؟ وعلى خلافه جمهور السَّلف، وعامة الفقهاء، وكأنه قاسه على من كَتَّفهُ الوالي وحبسه، فمنعه من الصَّلاة حتى خرج وقتها؛ أنه لا إعادة عليه) انتهى.
قلتُ: فقوله: (وكأنه قاسه...) إلخ: هذا أيضًا قياس فاسد؛ لأنَّ العذر فيمن كتَّفه أو حبسه جاء من قبل العباد، وكلما جاء العذر من قبل العباد؛ تجبُ فيه الإعادة؛ لأنَّ الصَّلاة قد تقررت في ذمته بيقين؛ لأنَّه مُخَاطبٌ بها، لكنَّه ممنوعٌ من أدائها بسبب الحبس والمنع، فيلزمه قضاؤها، وهذا أيضًا مخالفٌ لجمهور السَّلف وعامة الفقهاء، وقد قال الإمام الأعظم رأس المجتهدين: في الأسير إذا منعه الكفَّار من الوضوء والصَّلاة؛ فإنه يتيمم، ويومئ إيماء، ثمَّ يُعيد، وكذلك المحبوس المُقيد؛ فإنَّه يتيمم، ويُومئ، ثم يُعيد، كذا في «منهل الطلاب»، وبه قال محمَّد بن إدريس، وفي رواية عنه: أنه يصلي ويعيد، والمشهور الأول؛ فافهم، وقال الإمام زفر: لا يتيمم، ولا يصلي ولو وجد ترابًا نظيفًا؛ لأنَّ عنده التيمم في الحضر غير جائز؛ فافهم، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
(٣)[باب التيمم في الحضر]
هذا (باب) بيان حكم (التيمم في الحضر) يعني: في الأمصار، و (الحضر) خلاف السَّفر (إذا لم يجد) الرَّجل (الماء) الكافي لطهارته، والمراد بعدم الوجدان: عدم القدرة على استعماله، وهو حقيقةً أو حكمًا، فالأول: ما إذا لم يجده أصلًا، والثاني: ما إذا وجده في بئر وليس عنده آلة الاستقاء، أو كان بينه وبينه سبعٌ، أو عدوٌّ، أو حيةٌ، أو غير ذلك، (وخاف) وللأصيلي: (فخاف)(فوت) وقت (الصَّلاة) وجواب (إذا) محذوفٌ يدل عليه ما تقدمه؛ تقديره: يتيمم المحدث العادم الخائف فوتَ الوقتِ، (وبه) أي: بما ذُكِرَ من أن فاقد الماء في الحضر الخائف فوت الوقت يتيمم، (قال عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، وبه قال محمَّد بن إدريس، وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» موصولًا عن عمر، عن ابن جريج، عن عطاء قال:(إذا كنتَ في الحضر وحضرت الصَّلاة وليس عندك ماء؛ فانتظر الماء، فإن خشيت فوت الصَّلاة؛ فتيمم وصلِّ)، وزعم ابن حجر: أن قوله: (وبه) أي: بهذا المذهب، وردَّه إمام الشارحين حيث قال:(قلتُ: المعنى الذي يستفاد من التركيب هو ما ذكرته، ولا يرد عليه شيء) انتهى.
يعني: ما قلناه، وصريح هذا التعليق الموصول عند ابن أبي شيبة أنه لا يتيمم عند فقدان الماء أول الوقت، بل ينتظر، ويتفقد الماء آخر الوقت، فإن لم يجده وخشي فوت الوقت؛ فحينئذٍ يتيمم ويصلي، وظاهره أنه لا إعادة عليه [في] الأمصار غالبًا، وقال في «معراج الدِّراية» : الأصل أن في كل موضع يفوت الأداء لا إلى خلف؛ يجوز له التيمم، وفي كل موضع يفوت الأداء إلى خلف؛ لا يجوز، فالصلوات ثلاثة أنواع: نوع لا يخشى فواتها أصلًا؛ لعدم توقتها؛ كالنوافل، ونوع يُخشى فواتها أصلًا؛ كصلاة الجنازة والعيدين، ونوع يُخشى فواتها، وتقضى بعد وقتها أصلًا أو بدلًا؛ كالجمعة والمكتوبات، فالنوع الأول: لا يتيمم لها عند وجود الماء، والثاني: يتيمم لها عند وجود الماء في المصر، والثالث: لا يتيمم، فأما الجمعة؛ فلأنَّها تفوت إلى خُلفٍ؛ وهو الفرض الأصلي، وهو الظهر، فلا يتيمم لها، وأما المكتوبات؛ فلأنَّها تفوت إلى خلف أيضًا، وهو القضاء، فلم يكن عادمًا للماء في حقها، فلا يجوز التيمم، وبقول عطاء قال ابن عمر والحسن، وهو قول الإمام زُفَر واللَّيث بن سعد، وهو رواية عن الإمام محمَّد بن الحسن، وهو قول الإمام أبي نصر بن سليمان، وهو رواية عن الإمام الأعظم رئيس المجتهدين؛ لأنَّ التيمم إنَّما شرع لتحصيل الصَّلاة في وقتها، فلم يلزمه قولهم: إن الفوات إلى خُلْف كلا فوت، ولم يتوجه لهم سوى أنَّ التقصير جاء من قبله، فلا يوجب الترخيص عليه، وهو إنَّما يتيمم إذا أخر لعذر، كذا في «فتح القدير»، و «القنية»، وغيرهما.
وقال في «القنية» : وعلى هذا؛ لو كان شخص في سطحٍ ليلًا وفي بيته ماء، لكنه يخاف الظُّلمة إن دخل البيت؛ فإنه يتيمم إن خاف فوت الوقت.
وقال في «خزانة الفتاوى» : (إذا لم يمكن قطع المسافة للماء في الوقت؛ يتيمم) انتهى.
وقال في «المبتغى» : ومن كان في وكلة؛ جاز تيممه لخوف البرق، أو مطر، أو حرٍ شديد إن خاف فوت الوقت، وفي «منهل الطلاب» : ازدحم جمعٌ على بئر لا يمكن الاستقاء منها إلا بالمناوبة؛ لضيق الموقف، أو لاتحاد الآلة للاستقاء، فإن كان يتوقع وصول النوبة إليه قبل خروج الوقت؛ لم يتيمم بالاتفاق، وإن علم أنها لا تصل إليه إلا بعد خروج الوقت؛ فإنه يتيمم، فالعبرة في هذه المسائل خوف فوت وقت الصَّلاة، والمَرويُّ في ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف: أنَّ العِبرة للبعد، فالحضري العادم الماء؛ لا يتيمم وإن خرج الوقت، وقال الإمام الفقيه أبو الليث: يتيمم للوقت، ويصلي، ثم يقضيها بالوضوء؛ ليخرج عن العهدة بيقين، كذا قاله برهان الدين الحلبي، وهو الاحتياط، وهذا القول توفيق بين القولين، واعتمده جماعة من المتأخرين كالعلَّامة ابن أمير حاج في «الحُلية»، وشيخه المحقق كمال الدين بن الهمام، ومشى عليه العلامة علاء الدين في «الدر المختار»، وقال الإمام القدوري:(ويستحب لمن لا يجد الماء في أول الوقت وهو يرجو أن يجد الماء في آخر الوقت؛ أن يؤخر الصَّلاة إلى آخر الوقت) انتهى.