للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال الطيبي: (إنما أرسلها إليه؛ لأنَّه كان أهداها إياه، فلما ألهاه علمها؛ أي: شغله عن الصلاة بوقوع نظره إلى نقوش العلم؛ ردها عليه، أو تفكره في أن مثل ذلك للرعونة التي لا يليق به ردها إليه، واستبدل منه أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه) انتهى.

(وقال هشام بن عروة) : هو ابن الزبير، قال إمام الشَّارحين: (وهذا تعليق رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام، ورواه أبو داود عن عبيد الله، عن معاذ، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عنه، ورواه أبو معمر فقال: عمرة عن عائشة، قال الإسماعيلي: ولعله غلط منه، والصحيح عروة، ولم يذكر أبو مسعود هذا التعليق، وذكره خلف) انتهى.

قلت: والظاهر أنه سهو من الناسخ الأول وتبعه النساخ، والصواب عروة، كما لا يخفى، وزعم الكرماني أن قوله: (وقال هشام) عطف على قوله: (قال ابن شهاب)، وهو من جملة شيوخ إبراهيم، ويحتمل أن يكون تعليقًا، انتهى.

قلت: ولو اضطلع على ما قاله إمام الشَّارحين؛ لم يحتج إلى هذا التردد على أنَّ هذا ظاهر في أنه تعليق، فكأنه لم يضطلع على ما ذكره الشَّارح فتردد، فلله در شارحنا من إمام؛ فافهم.

(عن أبيه) : هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها قالت: (قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) يومًا وهو في حجرتها: (كنت أنظر إلى علمها)؛ بفتح العين المهملة واللام؛ يعني: الخميصة (وأنا في الصلاة) : جملة حالية، (فأخاف أن تَفتِنِّي)؛ بفتح المثناة الفوقية، وكسر الثانية، وبالنونين، من فتنه يفتنه من باب (ضرب يضرِب)، وفي رواية: (يَفتنني)؛ بفتح التحتية أوله بدل الفوقية، ويجوز أن تكون بالإدغام، وأن تكون بضم المثناة الفوقية من الثلاثي المزيد، يقال: فتنه وأفتنه، وأنكره الأصمعي.

فإن قلت: كيف يخاف الافتتان من لم يلتفت إلى الأكوان ما زاغ البصر وما طغى؟

قلت: إنه عليه السَّلام كان في تلك الليلة خارجًا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من ورائه، وأما إذا رد إلى طبعه البشري؛ فإنه يؤثر في البشر، واعلم أن هذه الرواية لم يقع له عليه السَّلام شيء من الخرق من الإلهاء؛ لأنَّه قال: «فأخاف»، وهو مستقبل، ويدل عليه أيضًا رواية مالك: «فكاد يفتنني»، فهذا يدل على أنه لم يقع، والرواية الأولى تدل على أنه قد وقع؛ لأنَّه صرح بقوله: «فإنها ألهتني»، والتوفيق بينهما يمكن بأن يقال: للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حالتان؛ حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك، فبالنظر إلى الحالة البشرية؛ قال: «ألهتني»، وبالنظر إلى الحالة الثانية؛ لم يحزم به، بل قال: «أخاف»، ولا يلزم من ذلك الوقوع، وأيضًا فيه تنبيه لأمته ليحترزوا عن مثل ذلك في صلاتهم؛ لأنَّ الصلاة المعتبرة أن يكون فيها خشوع، وما يلهي المصلي ينافي الخشوع والخضوع، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم القسطلاني أن قوله: «ألهتني» في الرواية الأولى يحمل على قوله: «كاد» في رواية مالك، فيكون الإطلاق؛ للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء، انتهى.

قلت: وهذا الحمل غير صحيح؛ لأنَّ الرواية الأولى صريحة في وقوع الإلهاء، فكيف يحمل على قرب الوقوع؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «ألهتني»، وأمره لأصحابه بردها إلى أبي جهم، وأمرهم بأن يأتوه بأنبجانيته دليل واضح على تحقق وقوع الإلهاء، ويدل عليه رواية أبي داود: «شغلني أعلام هذه»، وهي تدل على تحقق الوقوع أيضًا، ولا مانع من ذلك؛ فافهم فافهم.

فالظاهر هو ما قاله إمام الشَّارحين هنا وهناك وهو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، ويحتمل تعدد القصة، ففي القصة المذكورة في الرواية الأولى: (ألهته)؛ يعني: تحقق وقوعه، وفي القصة المذكورة في هذا التعليق لم يقع، بل خاف وقوعه، وفي القصة المذكورة في رواية مالك لم يقع، بل قرب وقوعه؛ لقوله: «فكاد»، وفي القصة المذكورة في رواية الحافظ الطحاوي التعبير بالافتتان وهو لم يقع بل قرب وقوعه لقوله: «فكاد»، ويدل على أن القصة متعددة أن أبا جهم كان تاجرًا وأنه يستجلب أنواع الخميصة والأنبجانية من الشام، وأنه يهدي إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في كل مرة خميصة، ويدل على ذلك أن في الرواية الأولى: قال عليه السَّلام: «ولها أعلام»؛ بالجمع، وفي الرواية الثانية قال: «إلى علمها»؛ بالإفراد، وفي رواية الحافظ الطحاوي: «لها علم»؛ أي: واحد، فهذا يدل على أن الخميصة المهداة له عليه السَّلام متعددة؛ لأنَّ أبا جهم تارة أهدى له خميصة لها أعلام، وتارة أهدى له خميصة لها علم واحد، ويدل على ذلك أيضًا أنه في الرواية الأولى قال لأصحابه: «اذهبوا وائتوني»، وكذا في رواية أبي موسى قال: «ردوها»، وهو يدل على أن الذين تولوا ردها أصحابه.

وفي رواية الحافظ الطحاوي: قال عليه السَّلام لعائشة: «ردي هذه الخميصة» وهو يدل على أنها هي التي تولت ردها بنفسها، وهو يدل على تعدد القصة؛ لأنَّ عائشة لم تكن مع أصحابه في المسجد، بل كانت في حجرتها، وقد صلى عليه السَّلام في حجرتها، فإنه لا يمكن اختلاط النساء بالرجال، ولو كان ذلك بحضرتها وحضرتهم؛ لما أمرها بردها، بل كان يأمر بعض أصحابه، فهذا كله يدل على أن القصة متعددة، وفيه أن صلاته في الرواية الأولى كانت فرضًا، وفي هذه الرواية كانت نفلًا، والله تعالى أعلم بالصواب.

(١٥) [باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟]

هذا (باب)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف (إن صلى)؛ أي: الشخص سواء كان رجلًا أو امرأة (في ثوب) : الجار والمجرور حال؛ أي: حال كونه في ثوب (مُصلَّب)؛ بضم الميم، وفتح اللام المشددة؛ أي: منقوش بصور الصلبان، كذا قاله إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أي:

<<  <   >  >>