للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كومًا من تراب؛ فافهم.

وفي الآية دليل على أنَّ الباني يختم له بالإيمان، وفي الحديث دليل على أنَّ الباني يدخل الجنة؛ لأنَّ المراد بالبناء له أن يسكنه فيه، وهو لا يكون إلا بعد دخول الجنة، رزقنا الله ذلك بفضله.

ومما يدل على فضل المسجد، ما رواه أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب «العلل» من حديث معاذ مرفوعًا: «من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن علَّق فيه قنديلًا؛ صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يطفئ ذلك القنديل، ومن بسط فيه حصيرًا؛ صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يتقطع ذلك الحصير، ومن أخرج منه قذاة؛ كان له كِفلان من الأجر»، قال إمام الشَّارحين: (وفيه كلام كثير) انتهى، قال العجلوني: (ولينظر هل المراد الطعن فيه أم لا؟) انتهى، قلت: لا محل للطعن هنا؛ لأنَّ المقام في فضائل الأعمال، وهو يعمل فيه بالحديث الضعيف، ولكن مراده: أنَّ الأحاديث الواردة في فضل المساجد كثيرة، واقتصر على ما ذكره منها مع أنه -رحمه الله- قد أطال في شرحه «عمدة القاري»، وأخرج حديث الباب عن ثلاثة وعشرين صحابيًّا؛ فارجع إليه إن شئت، وقد خفي هذا على العجلوني وغيره ممن تصدر لشرح «الصحيح»؛ فافهم، {وفوق كل ذي علم عليم}.

(٦٦) [باب يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد]

هذا (بابٌ) -بالتنوين- ثابت عند الأكثرين، ساقط عند الأصيلي (يأخذ) أي: شخص (بنصول النبل) كذا في رواية الأكثرين، ولابن عساكر: (يأخذ بنصال النبل) بالموحدة فيهما، ولأبي ذر: (يأخذ نصول النبل) بحذف الموحدة.

و (النصول) : جمع نصل، ويجمع أيضًا على نصال، كما في لفظ حديث الباب، وقال الجوهري: (النصل: نصل السهم والسيف والرمح، والجمع نصول ونصال)، وقال في «القاموس» : (النصل والنصلان: حديدة السهم والرمح والسيف ما لم يكن مقبض، والجمع: أنصل ونصال ونصول).

و (النَّبْل)؛ بفتح النون، وسكون الموحدة، آخره لام: السهام العربية، مؤنثة، ولا واحد لها من لفظها، وفي «القاموس» : (النَّبل: السهام بلا واحد أو نبلة، والجمع: أنبال ونبال ونبلان، والنَّبَّال: صاحبه وصانعه؛ كالنَّابل، وحرفته النبالة) انتهى.

وقوله: (إذا مر في المسجد) يجوز في (إذا) أن تكون لمجرد الظرفية متعلقة بـ (يأخذ)، وأن تكون شرطية وجوابها محذوف مقدَّر بـ (يأخذ بنصول النبل)؛ لدلالة (يأخذ) المتقدم عليه.

وقال إمام الشَّارحين: (وجواب «إذا» : هو قوله «يأخذ» مقدمًا)، واعترضه العجلوني بأنَّه ضعيف مذهب للكوفيين، أو مقدر بيستحب لمن معه نبل أن يأخذ بنصولها.

قلت: كونه ضعيفًا ممنوع؛ لأنَّه مذهب مستقل صحيح للأئمة الكوفيين، ولم ينص أحد على ضعفه من النحاة في هذه المسألة، وقوله: (أو مقدر...) إلخ؛ لا يلزم هذا التقدير؛ لأنَّ المعنى على عدمه صحيح، وإذا وجد التقدير وعدمه؛ فعدمه أولى عند المحققين فإن عادة المؤلف إطلاق تراجمه، وإحالة الحكم على الحديث الذي يذكر بعدها؛ فافهم.

نعم؛ يقدر الحكم المطلق ويحال بيانه على الحديث، ولهذا قال إمام الشَّارحين: (هذا باب فيه بيان أنَّ الشخص يأخذ بنصول السهم إذا مرَّ في مسجد من المساجد، وإنما قدَّرنا هكذا؛ لئلا يقع لفظ: «باب» ضائعًا، وأيضًا فيه بيان أنَّ الضمير المرفوع في «يأخذ» يرجع إلى هذا المقدر؛ لئلا يكون إضمارًا قبل الذكر، وليلتئم التركيب، ولم أر أحدًا من الشراح يذكر شيئًا في مثل هذه المواضع، مع أن فيهم من يدعي دعاوى عريضة في هذا الباب، وليس له حظٌّ من هذه الدقائق) انتهى.

قلت: فأفاد أن ذكر الشخص مقدمًا على (يأخذ) أولى؛ لأنَّ فيه التئام (١) الباب معه، وعليه فلا يحتاج لتقدير في لفظ (باب)، وهذا معنى صحيح، وأفاد أيضًا: أنَّ الضمير في (يأخذ) يرجع على الشخص المدلول عليه: بـ (يأخذ)، أو مر عليه أو لاختصاره، ولا ريب أن هذه دقائق وحقائق من المعاني المفردة، وبهذا ظهر أن تقدير إمام الشَّارحين أولى من تقدير العجلوني، على أنه قد أخذه منه ونسبه إلى نفسه، وقال: هو أولى، وليس كذلك، فمن تأمل كلامه؛ علم أنه مأخوذ من كلام إمامنا الشَّارح، فحقيق بأن يسمى إمام الشَّارحين رضي الله عنه، ورحمه أرحم الراحمين.

[حديث: أمسك بنصالها]

٤٥١ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتيبة) بضمِّ القاف، زاد الأربعة: (ابن سعيد) : هو ابن جميل بن طريف الثقفي البغلاني (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عيينة الكوفي ثم المكي، فإن قلت: قد تغير حفظه وربما دلَّس؛ قلت: إنَّما تغير حفظه في آخر عمره، وإنَّما يدلِّس عن الثقات، وهذا لا يقدح فيه؛ فافهم، (قال: قلت لعَمرو)؛ بفتح العين المهملة، هو ابن دينار: (أسمعت) بهمزة الاستفهام (جابر بن عبد الله) : هو ابن عمرو بن حرام-بمهملتين- الأنصاري ثم السَّلَمي؛ بفتحتين، وقوله: (يقول) جملة محلها نصب على أنَّها حال أو مفعول ثان لـ (سمعت) : (مر رجل) لم يعلم اسمه (في المسجد)؛ أي: النبوي، فـ (أل) فيه للعهد (ومعه سِهام)؛ بكسر السين المهملة: جمع سهم؛ يعني: قد أبدى وأظهر نصولها، وعند مسلم في (الأدب) من طريق أبي الزبير عن جابر: (أن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أمر رجلًا كان يتصدق بالنَّبل في المسجد ألَّا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها)، (فقال له) أي: للرجل (رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: حين رآه يفعل ذلك: (أمسك بنصالها)؛ أي: مخافة أن تخدش أحدًا من المسلمين، جمع (نصل)؛ وهو رأس الرمح من الحديد، ويقال لها: الحربة.

ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأنَّه عليه السَّلام أمره بإمساك النصال عند المرور في المسجد.

قال إمام الشَّارحين: (وفيه-أي الحديث-: السؤال عن السماع بطريق الاستفهام، ولم يذكر له جواب؛ يعني: لم يذكر قتيبة جواب عمرو عن الاستفهام).

قال ابن بطال: (فإن قيل: حديث جابر لا يظهر فيه الإسناد؛ لأنَّه لم يقل سفيان: إن عمرًا قال له: نعم؛ قلنا: قد ذكر البخاري في غير كتاب «الصلاة» أنه قال له: نعم؛ فبان بقوله: «نعم» إسناد الحديث).

وقال صاحب «التلويح» : (هذه المسألة اختلف فيها المحدثون؛ فمنهم من شرط النطق إذا قال له التلميذ: أخبرك فلان بكذا؟ ومنهم من لم يشترطه، وذكره البخاري في موضع آخر عن علي بن عبد الله عن سفيان فقال: نعم) انتهى.

قال إمامنا الشَّارح: (المذهب الراجح الذي عليه أكثر المحققين -منهم البخاري- أن قول الشيخ: «نعم» لا يشترط، بل يكتفى بسكوت الشيخ إذا كان متيقظًا، فعلى هذا فالإسناد في حديث جابر ظاهر، ومع ذلك فقد جاء في رواية الأصيلي أنه قال له: «نعم»، فانقطع النزاع) انتهى.

وزعم ابن حجر أنَّه لم ير هذه الزيادة في رواية الأصيلي، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (عدم رؤيته لا يستلزم عدم الرواية عنه، فإن لم يره هو، فقد حكى من هو أكبر منه أنه روى عنه لفظ: «نعم») انتهى، قلت: فمن روى هذه الزيادة وحكاها هو أكبر من ابن حجر في العلم والفضل؛ فافهم.

وقال إمام الشَّارحين في «شرحه» : (وأخرج الطبراني في «معجمه الأوسط» من حديث أبي البلاد عن محمد بن عبد الله قال: كنَّا عند أبي سعيد الخدري، فقلب رجل نبلًا، فقال أبو سعيد: «أما كان هذا يعلم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن تقليب السلاح، وسله؟!»؛ يعني: في المسجد، وروى ابن ماجه من حديث زيد بن جبير -وهو ضعيف- عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر يرفعه: «خصال لا تنبغي في المسجد؛ لا يتخذ طريقًا، ولا يشهر فيها سلاح، ولا يُنْبَضُ فيه بقوس،


(١) في الأصل: (ائتلام)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>