للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

في العموم، وهذا أشبه بتصرفات البخاري؛ إذ من شأنه الاعتناء بالأخفى أكثر من الأجلى).

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ما ثم في الذي ذكره هؤلاء المذكورون أكثر كلفة من كلام هذا القائل؛ لأنَّه تصرف في كلامهم من غير تحقيق، وأبعد من هذا دعواه: أنَّ البخاري حمل لفظ «الجسد» على المجاز، أفلا يعلم هو أنَّ المجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة أو لنكتة أخرى؟ وأي ضرورة ههنا إلى المجاز؟ ومن قال: إنَّ البخاري قصد هذا وأبعد من ذلك أنَّه علل ما ادعاه بغسل النبيِّ عليه السلام رجليه ثانيًا، وما ذاك إلا أنَّ رجليه في مستنقع الماء، وحاصل الكلام: كلام ابن المنير، وهو أقرب في وجه مطابقة الحديث للترجمة) انتهى.

وزعم العجلوني أنَّ رد ابن حجر لكلام ابن التين من جهة المغايرة، وأنهما قصتان، فكيف تحمل إحداهما على الأخرى؟

ورده لكلام الكرماني من جهة أنَّه لا يدفع الإشكال من عدم المطابقة بين الترجمة والحديث، وإنَّما الذي ادعى فيه التكلف هو كلام ابن المنير، ولا شك في تكلفه لابتنائه على شيئين.

وأمَّا جواب ابن حجر؛ فليس فيه إلا تجوز بحذف المضاف أو إطلاق الكل وإرادة الجزء، واستدل عليه بلفظ: (فغسل رجليه) الواقع في نفس الحديث، وحمل البخاري للحديث على هذا التأويل لازم له؛ ليطابق ترجمته، وهذه ضرورة المجاز، فيندفع جميع ما قاله، والعجب من قوله: (لأنَّه تصرف...) إلخ، فما موقعه؟

وأمَّا قوله: (وأبعد من ذلك ما ادعاه...) إلخ؛ فهو وإن كان أقوى اعتراضاته لكن دعواه الحصر في أن الغسل لرجليه لم يكن إلا لأنَّهما في مستنقع الماء ممنوع؛ لجواز أن يكون لتأخيره غسلها حيث لم يغسلهما أولًا تكملة للوضوء؛ فتأمل وأنصف) انتهى.

قلت: أمر بالتأمل والإنصاف ولم يتأمل ولم ينصف، فإن قوله: (في كلام ابن التين من جهة المغايرة...) إلخ ممنوع، فإنه لا مغايرة فيه في المعنى، وإن كان اللفظ يحتمل المغايرة، فإن قوله هناك: (ثم غسل سائر جسده) وهنا (ثم غسل جسده)؛ أي: ما بقي من جسده؛ لأنَّ الرواية الأولى قد دلت على ذلك؛ لأنَّ (سائر) بمعنى: باقي، كما لا يخفى.

وقوله: (وإنهما...) إلخ ممنوع، فإن ظاهرهما يحتمل أنَّهما قصتان من حيث إن الرواية الأولى عن عائشة وهنا عن ميمونة، لكنه في الحقيقة قصة واحدة؛ حيث إن كل واحدة منهما في الغسل من الجنابة.

وقوله: (فكيف...) إلخ ممنوع أيضًا، فإن كثيرًا من الأحاديث يحمل بعضها على بعض في الأحكام يفسر بعضها بعضًا، كما لا يخفى.

وقوله: (في كلام الكرماني...) إلخ، قد علمت ما قدمنا، وأنَّه ليس بشيء.

وقوله: (وأمَّا الذي ادعى...) إلخ ممنوع؛ فإن كلام ابن المنير هو الصواب.

وقوله: (لا شك في تكلفه) ممنوع، فأي تكلف فيه؟ بل هو ظاهر.

وقوله: (لابتنائه على شيئين) ممنوع أيضًا؛ لأنَّه مأخوذ من سياق الكلام، فإنه لما ذكر أعضاء الوضوء وذكر بعده الجسد؛ علم ضرورة أنه لم يعد غسل الأعضاء، واستدل بذلك بالقرينة الحالية والعرفية، فأين التكلف الذي زعمه هذا القائل؟ وما هي إلا دعوى أهل التعصب من عدم التأمل وعدم الإنصاف، وقد ارتضى هذا الجواب القسطلاني، واقتصر عليه؛ لكونه في غاية التحقيق والظهور.

وقوله: (وأمَّا جواب ابن حجر...) إلخ هذا هو الذي فيه التكلف ولا شك في تكلفه؛ لأنَّه مبني على المجاز الذي لا يجوز المصير إليه إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا المجاز بحذف المضاف، أو إطلاق الكل وإرادة الجزء وهو أشد التكلفات؛ لاحتياجه إلى التقدير، وإذا وجد التقدير وعدمه، فعدم التقدير أولى وأحسن عند أهل التحقيق، وإطلاق الكل وإرادة الجزء كذلك فيه شدة التكلف؛ لأنَّه لا داعي إلى هذا الإطلاق، ولا احتياج إليه.

وقوله: (واستدل...) إلخ هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ تأخير غسل الرجلين إنَّما كان لأنَّهما في مستنقع الماء، وحتى يكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، ويدل للأول قوله: (ثم تنحى)؛ أي: تباعد، والتباعد لا يكون عن المكان إلا لأنَّ الماء مجتمع فيه؛ لأنَّه لو لم يكن ماء مجتمع؛ لغسلهما في مكانه.

وقوله: (وحمل البخاري...) إلخ ممنوع، فإن البخاري لا شك أنَّه لم يرد هذا التأويل؛ لأنَّه من عادته أنَّه لم يحمل الأحاديث إلا على الحقيقة، ولم يسبق له أنَّه حملها على المجاز.

وقوله: (وهذه ضرورة المجاز) ممنوع، فإن مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة مما قاله ابن المنير، كما ارتضاه إمام الشارحين والقسطلاني وغيرهما، وليس ما زعمه بمطابق للترجمة، فأين الضرورة؟ وما هذا إلا مكابرة بالمحسوس وعنف من النفوس.

وقوله: (فيندفع...) إلخ ممنوع، بل جميع ما قاله هو الصواب، ولم يندفع كلامه أصلًا.

وقوله: (والعجب...) إلخ قلت: موقعه أنَّ ابن حجر أخذ كلامه من مجموع ما ذكره الشراح وخبط فيه وخلط، فلا شك أنه يتعجب منه.

وقوله: (وأمَّا قوله...) إلخ، فإن جميع ما قاله قوي؛ كالجبل القاسي على رأس العاصي.

وقوله: (لجواز...) إلخ ممنوع، فأي داع لتأخيره ولا حاجة للتأخير، فعدم ذلك دليل على أن تأخير غسلهما؛ لأنَّهما في مستنقع الماء حتى يجتنب الماء المستعمل، ويحترز عنه، فالحصر غير ممنوع، بل هو صحيح، فلو غسلهما أولًا؛ يلزمه إعادة غسلهما؛ لأنَّهما تلوثان بالغسالة المستعملة، فلو غسلهما ثانيًا؛ يكون إسرافًا، وهو منهيٌّ عنه، فيكون عبثًا.

وقول ابن حجر: (وهذا أشبه بتصرفات البخاري...) إلخ ممنوع، بل هو بعيد جدًّا، فإن تصرفاته مبنية على الحقيقة لا على المجاز، ولا شك أن هذا ليس بمراد له؛ لاحتياجه إلى التكلفات الواهية والتقديرات اللاهية، والله تعالى أعلم.

(١٧) [باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب خرج كما هو ولا يتيمم]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان حكم من: (إذا ذُكِر)؛ بضمِّ الذال المعجمة، وكسر الكاف، من الباب الذي مصدره الذُّكر -بضمِّ الذال- لا من الباب الذي مصدره الذِّكر -بالكسر- وهذه دقة لا يفهمها إلا من له ذوق بتراكيب الكلام، فلذلك فسر بعضهم قوله: (ذكر) بقوله: (تذكر) فلو ذاق هذا القائل ما ذكرناه؛ لما احتاج إلى تفسير فعل بـ (تفعَّل)، قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».

قلت: ومراده بالبعض ابن حجر، فإنه قد فسر قول المؤلف (ذكر) بمعنى تذكَّر، وهو غير صحيح لما في «المصباح» : (ذكرته بلساني، وبقلبي ذكرى)؛ بالتأنيث، والاسم ذُِكر بالضم والكسر، نص عليه جماعة، وأنكر الفراء وغيره الكسر في القلب، وقال: (اجعلني على ذُكر منك؛ بالضم لا غير، ولهذا اقتصر عليه جماعة) انتهى.

فقد خلط ابن حجر بين الاسم والمصدر ولم يفرق بينهما، فالمصدر بالضم لا غير، والاسم كذلك، وهذا طريقة جمهور أهل اللغة، وفرق بعضهم؛ فجعل الاسم بالضم والكسر، والمصدر بالضم لا غير، والمراد هنا: المصدر فهو بالضم لا غير بإجماع أهل اللغة.

وزعم العجلوني أنَّ ما ذكره صاحب «عمدة القاري» طريقة لبعض اللغويين، واستند لعبارة «المصباح» المذكورة، وقال: ظهر لك أن الذُّكر بالضم والكسر: الاسم لا المصدر، وعلى تسليم أنَّه المصدر، وأنَّه بالضم لا غير، فما وجه إيراده على ابن حجر؟ فإنه لم يدَّعِ أنه من المكسور ولا من المضموم، فما هذه الدقة التي فهمها بذوقه، ولم يفهمها غيره؟) انتهى.

قلت: وهذا غير صحيح، فإن الظاهر من عبارة «المصباح»

<<  <   >  >>