للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(فكيف تصنع) بتاء الخطاب (بقول عمَّار) : هو ابن ياسر (حين قال له النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) لما سأله أنه أجنب، وتمعك بالتراب، فقال له: (كان يكفيك) أي: في التطهير مسح الوجه والكفين، (قال) أي: ابن مسعود: (ألم تر) أي: تظن (عمر) : هو ابن الخطاب (لم يقنع)؛ أي: لم يأخذ.

وقوله: (منه)؛ أي: من عمار، ثابت في أكثر الروايات، ساقط في رواية (بذلك)؛ أي: بالحكم المذكور، (فقال أبو موسى)؛ أي: الأشعري لعبد الله بن مسعود: (فدعنا)؛ أي: اتركنا، وكلمة (دع) أمر من يدع، وأمات العرب ماضيه؛ والمعنى: اقطع نظرك (من قول عمار) أي: ابن ياسر المذكور، (كيف تصنع) بالخطاب (بهذه الآية؟)؛ أي: فيما ورد في القرآن، وهو قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا...}؛ الآية [النساء: ٤٣]، (فما درى) أي: فلم يعلم (عبد الله) أي: ابن مسعود (ما يقول) في توجيه الآية على وفق فتواه، ولعل المجلس لم يكن يقتضي تطويل المناظرة، وإلا؛ فكان لعبد الله أن يقول المراد من الملامسة في الآية: تلاقي البشرتين فيما دون الجماع، وجعل التيمم بدلًا من الوضوء فقط، فلا يدل على جواز التيمم للجنب، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وحاصله: أن عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما لا يجوزان التيمم للجنب؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦]، وقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، فأبطلا هذه الرخصة مع ما فيها من إسقاط الصَّلاة عن المخاطب بها، والمأمور بأدائها؛ لأنَّهما تأولا الملامسة في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على مماسة البشرتين من غير جماع، كما مر؛ لأنَّهما لو أرادا الجماع؛ لكان فيه مخالفة للآية صريحًا، فإنه تعالى قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}؛ يعني: فاغتسلوا، ثم قال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: ٤٣]، فقد جعل التيمم بدلًا عن الوضوء فقط، فلا يدل على جواز التيمم للجنب، والله تعالى أعلم، (فقال) أي: ابن مسعود لأبي موسى: (إنا) أصله: إننا؛ فحذفت النون ضمير متصل تخفيفًا (لو رخصنا) أي: يسرنا وسهلنا (لهم) أي: للمسلمين (في هذا) أي: في جواز التيمم للجنب؛ (لأوشك)؛ بفتح الهمزة فعل ماض؛ معناه: قرب وأسرع، ففيه رد على من زعم أنه لا يجيء من باب (يوشك) ماضيًا، ولا يستعمل إلا مضارعًا (إذا برد)؛ بفتح الموحدة، والراء، قال الجوهري: (بضمِّ الراء)، والمشهور الفتح (على أحدهم الماء) فخاف إن استعمله؛ يهلكه البرد (أن يدعه)؛ بفتح التحتية أوله، والدال المهملة؛ أي: يترك استعمال الماء المطلق، (ويتيمم)؛ أي: خلفًا عنه.

فإن قلت: ما وجه الملازمة بين الرخصة في تيمم الجنب، وتيمم المتبرد حتى صح أن يقال: لو رخصنا لهم في ذلك؛ لكان إذا وجد أحدهم البرد تيمم؟

قلت: الجهة الجامعة بينهما هو اشتراكهما في عدم القدرة على استعمال الماء؛ لأنَّ عدم القدرة إما لفقد الماء، وإما لتعذر الاستعمال، كذا في «عمدة القاري».

(فقلت) يعني: قال الأعمش: قلت (لشقيق) : هو أبو وائل: (فإنما)؛ بالفاء في رواية جميع الرواة، وقيل: بل أكثرهم، وفي رواية: (وإنما)؛ بالواو (كره عبد الله) أي: ابن مسعود؛ يعني: لم يجوز التيمم للجنب (لهذا)؛ أي: لأجل هذا المعنى، وهو احتمال أن يتيمم للبرد، (فقال) أي: شقيق، وفي رواية: (قال) (نعم) يعني: كرهه لذلك، وهذا يدل على أن الكراهة ليست بمعنى عدم الجواز، بل بمعنى الجواز مع الإساءة لكن الذي قدمه يدل على عدم الجواز، ولهذا اختار علماؤنا المتقدمون؛ كصاحب «الهداية» والإمام القدوري: التعبير بالكراهة فيما لا يجوز، فاختلط على بعض من يدَّعي (١) العلم، فقال ما قال من جهله، وعدم معرفته، فردع عن ذلك أشد الردع، وأبكم، وأفحم.

وزعم الكرماني: فإن قلت: الواو لا تدخل بين القول ومقوله، فلم قال: (وإنما كره)؟ قلت: هو عطف على سائر مقولاته المقدرة؛ أي: قلت كذا وكذا أيضًا، انتهى.

ورده إمام الشارحين فقال: (قلت: كأنه اعتمد على نسخة فيها: «وإنما»؛ بواو العطف، والنسخ المشهورة: «فإنما»؛ بالفاء) انتهى.

وعلى هذا؛ فكلام الكرماني ساقط الاعتبار؛ فافهم، قال إمام الشارحين: وفي الحديث فوائد؛ الأولى: فيه جواز المناظرة، وقال الخطابي: والظاهر منها يأتي على إهمال حكم الآية، وأي عذر لمن ترك العمل بما في هذه الآية من أجل أن بعض الناس عساه أن يستعملها على وجهها، وفي غير جنسها؟ وأما الوجه؛ فيما ذهب إليه عبد الله من إبطال هذه الرخصة مع ما فيه من إسقاط الصَّلاة عمن هو مخاطب بها ومأمور بإقامتها.

وأجيب عن هذا: بأن عبد الله لم يذهب هذا المذهب الذي ظنه هذا القائل، وإنما كان تأول الملامسة المذكورة في الآية على معنى غير معنى الجماع، إذ لو أراد الجماع؛ لكان فيه مخالفة الآية صريحًا، وذلك مما لا يجوز من مثله في علمه وفهمه وفقهه.

الثانية: فيه أن رأي عمر وعبد الله رضي الله عنهما انتقاض الطهارة بملامسة البشرتين، وهي المسماة بالمباشرة الفاحشة؛ وهي التقاء الفرج بالفرج؛ لأنَّها لا تخلو عن ظهور مذي غالبًا، وهو كالمتحقق، وأن الجنب لا يتيمم.

والثالثة: فيه جواز التيمم للخائف من البرد، قاله ابن بطال.

قلت: ومذهب الإمام الأعظم: أنه يجوز التيمم للجنب المقيم إذا خاف البرد.

الرابعة: فيه جواز الانتقال في المحاجة من دليل إلى دليل آخر؛ مما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك جائز للمتناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، كما في محاجة إبراهيم عليه السلام ونمرود عليه اللعنة، ألا ترى أن إبراهيم لما قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، قال نمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، فلم يحتج إلى توقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى قوله: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ} [البقرة: ٢٥٨]، فأفحم نمرود عند ذلك) انتهى، والله تعالى أعلم.

(٨) [باب: التيمم ضربة]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، كما قدرنا: (التيمم)؛ بالرفع مبتدأ (ضربة)؛ بالرفع خبره، وهذا رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني كما في «عمدة القاري» : (باب)؛ بلا تنوين للإضافة إلى (التيمم)، و (ضربة)؛ بالنصب على الحال؛ والتقدير: هذا باب في بيان صفة التيمم حال كونه ضربة واحدة، وقد ذكرنا أن في صفة التيمم قولين (٢)، وأن الرواية: (ضربة واحدة) أولى من رواية: (ضربتين)


(١) في الأصل: (يدَّع)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (قولان)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>