للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والمراد منه: الحدث الناقض للوضوء؛ كالريح ونحوه، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: الحدث لغة: الشيء الحادث، وأمَّا شرعًا؛ فمانعية شرعية رافعة للطهارة إلى استعمال المطهر؛ كالريح ونحوه، وزعم العجلوني أنَّ الحدث يُطلق شرعًا على أمور؛ منها: الأمر الناقض للوضوء، انتهى.

قلت: وهو فاسد؛ فإن الحدث هو المعنى الحالُّ بصاحبه، الرَّافعُ للطهارة إلى استعمال المطهِّر، وليس له إطلاقات، بل هو أصل وتحته أمور معنوية، وليست هي أمورًا (١) حقيقية؛ فافهم.

وقال المازري: أشار البخاري إلى الرد على مَنْ مَنَع المُحدِث من دخول المسجد والجلوس فيه، وجعله كالجُنُب، وهو مبني على أنَّ الحدث ههنا الريح ونحوه، وبذلك فسره أبو هريرة، كما سبق في كتاب (الطهارة)، وزعم ابن حجر: قيل: المراد بالحدث هنا أعم؛ أي: مالم يحدث سواء، ويؤيده رواية مسلم: «ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه» على أنَّ الثانية تفسير للأولى، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (لا نسلِّم أنَّ الثانية تفسير للأولى؛ لعدم الإبهام، غاية ما في الباب ذكر فيه شيئين؛ أحدهما: حدث الوضوء، والآخر: حدث الإثم، على أنَّ مالكًا وغيره قد فسَّروا الحدث بنقض الوضوء) انتهى.

ثم قال: فإن قلت: قد ذكر ابن حبيب عن إبراهيم النخعي: أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى يقول: «هو حدث الإثم»، قلت: لا منافاة بين التفسيرين؛ لكونهما مصرحين في رواية مسلم، وروايةالبخاري مقتصرة على تفسير مالك وغيره، ولهذا جاء في رواية أخرى للبخاري: «ما لم يُؤذِ؛ يُحدِث فيه»؛ فهذه تصرِّح بأن المراد من الأذى: هو الحدث الناقض للوضوء، ومن هذا قالوا: إنَّ رواية الجمهور: (ما لم يحدث) في الحديث؛ بالتخفيف: من الإحداث، لا بالتشديد: من التحديث، كما رواه بعضهم، وليست بصحيحة، ولهذا قال السفاقسي: (لم يذكر التشديد أحد) انتهى.

قلت: ومراده بقوله: (بعضهم) : ابن حجر العسقلاني؛ فإنَّه قد زعم أن (يحدِّث) بالتشديد، ولا معنى له ههنا، وهو كلام من لم يذق شيئًا من الفهم، ولهذا قال الزركشي: (المراد به: الحدث الناقض للوضوء)، وهو تفسير أبي هريرة راوي الحديث، انتهى.

يعني: فلا عبرة بتفسير غيره؛ فافهم

[حديث: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه]

٤٤٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) : هو التنيسي المنزل، الدمشقي الأصل (قال: أخبرنا مالك) : هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي الزِّنَاد)؛ بكسر الزاي، وفتح النون: هو عبد الله بن زكوان المدني، (عن الأعرج) : هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، (عن أبي هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصحابي رضي الله عنه: (أنَّ)؛ بفتح الهمزة، وتشديد النون (رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب اسمها، وخبرها جملة قوله: (قال: الملائكة) وفي رواية الكشميهني: (أنَّ الملائكة) وهي جمع (ملاك)، على الأصل؛ كالشمائل جمع (شمال)، وهو مقلوب (مألك) من (الألوكة)؛ وهي الرسالة؛ لأنَّهم وسائط بين الله وبين الناس، فهم رسل الله أو كالرسل إليهم، كذا قيل.

والمشهور: أن أصل ملائكة: ملأك على وزن (فعلل)، نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا؛ فصار ملك، فلما رجع؛ ردت الهمزة المحذوفة، فقيل: ملائك، والتاء فيه؛ لتأنيث الجمع؛ لكونه بمعنى: الجماعة، كما في الصياقلة في جمع (صيقل)، وإنَّ أصله: مألك على وزن (مفعل) من (ألك)؛ بمعنى: أرسل، وفاؤه همزة، وعينه لام، و (الألوكة) : الرسالة، و (مألك) : موضع الرسالة أو مصدر بمعنى المفعول؛ فيكون (ملاك) مقلوبًا من (ملأك) نقلت همزة (مألك) إلى مكان اللام وقدمت اللام، فقيل: (ملأك) على وزن (مفعل)، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، فصار: (ملك) على وزن (معل)؛ بحذف الفاء، فلما جمع؛ ردت الهمزة المحذوفة، فقيل: (ملائك) على وزن (معافل) بالقلب؛ لأنَّ التكسير يردُّ الأشياء إلى أصولها، فعلى هذا؛ تكون ميم (ملك) زائدة ويكون وزنه (معلًا)، وذهب بعضهم إلى أنَّ الميم في (ملك) : أصلية والهمزة زائدة، واختاره ابن كيسان.

واختلف الناس في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنَّها ذوات موجودة قائمة بأنفسها؛ فذهب أكثر المسلمين إلى أنَّها أجسام لطيفة هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلِّين بأنَّ الرسل كانوا يرونهم كذلك، وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان، وزعم الحكماء أنَّها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين:

قسم: شأنهم الاستغراق في معرفة الله والتنزُّه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم التنزيل فقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: ٢٠] : وهم العليون والمقربون.

وقسم: يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء، وجرى به القلم الإلهي، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم المدبِّرات أمرًا؛ فمنهم سماوية، ومنهم أرضية على تفصيل في ذلك مذكور في كتاب «الطوالع».

(تصلي على أحدكم) : قال إمامنا الشَّارح: («الملائكة» : جمع محلًّى باللام؛ فيفيد الاستغراق) انتهى؛ يعني: يشمل الحفظة، والسيارة، وغيرهما، وتبعه الكرماني، والقسطلاني، وغيرهما، وخالفهم ابن حجر فقال: (المراد بالملائكة الحفظة أو السيارة، أو أعم من ذلك) انتهى.

قلت: وفيه قصور؛ لأنَّ لفظ: (الملائكة) جمع محلًّى باللام؛ فيفيد العموم ولا مخصص، ولا وجه لتخصيص العام من غير مخصص؛ فيشمل جميع الملائكة الذين قدمنا ذكرهم؛ لأنَّ اللفظ عام؛ فافهم.

(مادام) أي: أحدكم؛ أي: مدة دوامه (في مُصلاه)؛ بضمِّ الميم، وهو اسم مكان، قاله إمام الشَّارحين؛ يعني: في مكان صلاته (الذي صلى فيه) وهو المسجد يدلُّ على ذلك رواية البخاري، فيما يتعلق بالمساجد على ما يأتي، ولفظه: «فإنَّ أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء، وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة؛ لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة أو حطَّ عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد؛ كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه...»؛ الحديث.

والأحاديث تفسِّر بعضها بعضًا، فعلم أنَّ المراد بقوله: (في مصلاه) : هو المكان الذي يصلَّى فيه في المسجد، وإن كان بحسب اللغة يطلق على المُصلَّى الذي في غير المسجد، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».

قلت: وعلى هذا؛ يقال فيما رواه المؤلف في باب (من جلس في المسجد ينتظر الصلاة) ولفظه: «ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»؛ فإن المراد: مكان الصلاة؛ وهو المكان الذي يصلِّي


(١) في الأصل: (أمور)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>