للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أنها في حجرتها، وكانت حجرتها ملاصقة للمسجد النبوي، (فترجله)؛ أي: فترجل عائشة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: تسرح شعر رأسه (وهي حائض) الجملة حالية؛ أي: والحال أنها حائض، والحديث دال على جواز خدمة الحائض فقط، وأما دلالته على دنوِّ الجنب؛ فبالقياس عليها، والجامع اشتراكهما في الحدث الأكبر وهو القياس الجلي؛ لأنَّ الحكم بالفرع أولى؛ لأنَّ الاستقذار في الحائض أكثر، كذا في «عمدة القاري».

ثم قال: (ومما يستنبط من الحديث: أن المعتكف إذا أخرج يده، أو رأسه، أو رجله من المسجد؛ لم يبطل اعتكافه، وأن من حلف لا يدخل دارًا ولا يخرج منها، فأدخل بعضه أو أخرج بعضه؛ لا يحنث، وفيه: استخدام الزوجة في الغسل ونحوه برضاها، وأما بغير رضاها؛ فلا يجوز؛ لأنَّ عليها تمكين الزوج من نفسها وملازمة بيته فقط) انتهى.

قلت: وفيه: دليل على أن الحائض ومثلها النفساء والجنب لا تدخل المسجد تنزيهًا له وتعظيمًا؛ لأنَّه لا يؤمن تلوثه، وفيه: دليل على أن المباشرة لا تنقض الوضوء؛ كمس اليد، والرأس، وغيرهما، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وقال ابن بطال: (والحديث حجة في طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه: دليل على أن المباشرة التي قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] لم يرد بها كل ما وقع عليه اسم المس، وإنما أريد بها: الجماع أو ما دونه من الدواعي؛ كاللذة لا المس؛ أي: لأنَّه غير ناقض للوضوء، وفيه: ترجيل الشعر للرجال وما في معناه من الزينة، وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا وتعظيمًا له، وهو المشهور من مذهب مالك، وحكى ابن مسَلَمَة أنها تدخل هي والجنب، وفي رواية: «يدخل الجنب ولا تدخل الحائض»، وفيه حجة على الشافعي في أن المباشرة مثل ما ذكر في الحديث لا تنقض الوضوء) انتهى.

وزعم ابن حجر تبعًا للكرماني أنه لا حجة فيه؛ لأنَّ الاعتكاف لا يشترط فيه الوضوء، وليس في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصَّلاة، وعلى تقدير ذلك؛ فمس الشعر لا ينقض الوضوء، انتهى.

ورده صاحب «عمدة القاري» (بأنه ليس في الحديث أيضًا أنه توضأ عقيب ذلك) انتهى.

قلت: والحق أن الحديث حجة واضحة على الشافعي؛ لأنَّه لا يلزم من عدم اشتراط الوضوء للاعتكاف ألَّا يكون وقتئذٍ متوضئًا، بل من عادته عليه السلام أنه يكون دائمًا على الوضوء في جميع أحواله، على أن كونه في المسجد دليل على أنه كان متوضِّئًا، ولأنَّه لا يلزم من أنه لم يذكر في الحديث أنه عقَّب ذلك الفعل بالصَّلاة ألَّا يصلي أصلًا، بل من عادته عليه السلام أنه مواظب على الصَّلاة التي هي عبادة الرب عز وجل؛ فإنه عليه السلام كان يقوم الليل إلا قليلًا، فالنهار حال الاعتكاف أولى به بالصَّلاة على أنه كونه في المسجد دليل على أنه كان يصلي عقب ذلك؛ لأنَّ هذا الفعل للزينة والله تعالى أحق أن يتزين له.

وعلى كلٍّ؛ فالحديث حجة عليه؛ لأنَّ من عادة مس الشعر أنه تمس البشرة؛ لأنَّه وإن كان مس الشعر غير ناقض عندهم إلا أنه من عادة تسريح الشعر أنه تمس البشرة وتمس اليد وغيرها، على أنه عليه السلام من عادته أن يدهن بعد التسريح، وإن لم يذكر في الحديث؛ فإنه ظاهر والله يتولى السرائر.

(٣) [باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حايض]

هذا (باب) حكم (قراءة الرجل) وفي رواية: (باب قراءة القرآن)، وقوله: (في)؛ بمعنى: (على)، كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ (١) فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: ٧١]؛ أي: عليها (حجْر)؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها، وسكون الجيم، والجمع حُجُور، ومحل الجار والمجرور نصب على الحال؛ والتقدير: قراءة الرجل حال كونه متكئًا على حجر (امرأته)؛ أي: أو أمته، ويجوز أن يقدر واضعًا رأسه على حجر امرأته، أو مستندًا إليه، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (وكان أبو وائل)؛ بالهمزة، هو شقيق بن سَلَمَة الأسدي، أدرك النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يره، يروي عن كثير من الصحابة، قال يحيى بن معين: (ثقة لا يسأل عن مثله)، قال الواقدي: (مات في خلافة عمر بن عبد العزيز)، وهذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند صحيح، كذا في «عمدة القاري» (يرسل خادمه)؛ الخادم اسم لمن يخدم غيره، ويطلق على الغلام والجارية، فلهذا قال: (وهي حائض) فأنَّث الضمير (إلى بني رَزِين)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي المعجمة، اسمه: مسعود بن مالك الأسدي مولى أبي وائل الكوفي التابعي، روى له مسلم، والأربعة (لتأتيه)، وفي رواية: (فتأتيه) (بالمصحف، فتمسكه بعِلاقته)؛ بكسر العين المهملة؛ ما يعلق به المصحف من الخيط الذي يربط به كيسه، وكذلك علاقة السيف.

ووجه مطابقته للترجمة ما قال في «التلويح» : لما ذكر البخاري حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف؛ نظرها بمن يحفظ القرآن فهو حامله؛ لأنَّه في جوفه، كما روي عن ابن المسيب وابن جبير: (هو في جوفه)، ولما قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ورقة وهو جنب قال: في جوفه أكثر من هذا، ونزَّل ثياب الحائض بمنزلة العلاقة، وقراءة الرجل بمنزلة المصحف؛ لكونه في جوفه) انتهى، وتبعه صاحب «التوضيح».

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: هذا في غاية البعد؛ لأنَّ بين قراءة الرجل في حجر امرأته وبين حمل الحائض المصحف بعلاقته فرقًا عظيمًا (٢) من الجهة التي ذكرت؛ لأنَّ قوله: «نظرها» إما تشبيه، وإما قياس، فإن أراد به التشبيه؛ فهو تشبيه مخصوص بمفعول فلا وجه له، وإن أراد به القياس؛ فشروطه غير موجودة فيه، ويمكن أن يقال: وجه التطابق بينهما هو جواز الحكم في كل منهما، فكما تجوز قراءة الرجل في حجر الحائض كذلك يجوز حمل الحائض المصحف بعلاقته، وفي كل منهما دخل للحائض، وفيه وجه التطابق، ثم لو قيل ما قيل في ذلك؛ فلا يخلو عن تعسف) انتهى.

ثم قال: (وفي الأثر دليل: على جواز حمل الحائض المصحف بعِلاقته؛ يعني: بغير مسه ومثلها النفساء والجنب، وممن أجاز ذلك ابن عمر، وعطاء، وحمَّاد، والحسن، ومُجَاهِد، وأبو زيد، وطاووس، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور، والشعبي، والقاسم بن محمَّد، ومالك، والشافعي، وأحمد)، وقال ابن حزم: قراءة القرآن، والسجود فيه، ومس المصحف، وذكر الله تعالى؛ جائز بوضوء وبغير وضوء للجنب والحائض، وهو قول ربيعة، وابن المسيب، وابن جبير، وابن عباس، وداود، وجميع أصحابنا، أما مس المصحف؛ فإن الآثار التي احتج بها من يجيز للجنب مسه؛ فإنه لا يصح منها شيء؛ لأنَّها إما مرسلة، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف، والصحيح: عن ابن عباس، عن أبي سفيان حديث هرقل الذي فيه: {[قُلْ] يَا أَهْلَ (٣) الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَاّ اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٦٤]، فهذا النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد بعث كتابًا فيه قرآن للنصارى، وقد أيقن أنهم


(١) في الأصل: (لأصلبنكم)، والمثبت موافق للتلاوة.
(٢) في الأصل: (فرق عظيم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (ويا أهل)، والمثبت موافق للتلاوة.

<<  <   >  >>