للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقيل: إنَّ الرجل سعد بن عبادة، وفيه نظر؛ لأنَّ الحديث فيه: «فتلاعنا»، ولم يتَّفق لسعد ذلك، قاله بعضهم.

قلت: وهو غير ظاهر؛ لاحتمال أنَّه قد اتفق له ذلك، والمثبت مقدم على النافي.

وزعم القسطلاني أنَّ حديث الزهري السابق لا يدل على أنَّ الرجل هو عاصم بن عدي؛ لأنَّ عاصمًا رسول الواقعة لا سائل لنفسه؛ لأنَّ عويمرًا (١) قال له: سل يا عاصم رسول الله صلى الله عليه السَّلام، فجاء عاصم، فسأل، فكره عليه السَّلام المسائل، فجاء عويمر بعده، وسأل).

قلت: وفيه نظر؛ لاحتمال أنَّ عاصمًا سأل لنفسه؛ لأنَّ القضية قد وقعت لعاصم ولعويمر، فسأل عاصم لنفسه أولًا، ثم سأل عويمر بعده، ويحتمل أنَّه لمَّا وقعت القضية لعويمر؛ سأل عاصمًا، فذكر أنَّه وقعت له أيضًا، فسأله (٢) عويمر لأن يسأل لنفسه ولعويمر، فحديث الزهري دالٌّ على أنَّ القصة وقعت لعاصم أيضًا، خلافًا لما زعمه؛ فافهم.

(قال: يا رسول الله؛ أرأيت رجلًا)؛ الهمزة فيه للاستفهام؛ أي: أخبرني عن حكم رجل (وجد مع امرأته رجلًا)؛ أي: أجنبيًّا يزني بها، (أيقتله)؛ فيه حذف دلَّ عليه الأحاديث التي ذكرها المؤلف، والمحذوف: أيقتله أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المُتلاعنين، فقال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «قد قضى الله فيك وفي امرأتك».

قال: (فتلاعنا) أي: الرجل والمرأة اللعان المذكور في سورة النور (في المسجد) قال سهل بن سعد: (وأنا شاهد) لذلك، فلمَّا فرغا؛ قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «ذاك تفريق بين كلِّ متلاعنين...»؛ الحديث، وسيأتي في (اللعان).

ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: (أيقتله)؛ لأنَّه لو لم يَرَ مباشرة تامَّة؛ لمَّا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن جواز قتل الرجل، وإلا؛ فمجرد وجدان الرجل مع امرأته غير مباشرة لا يقتضي سؤال القتل فيه، ففي الجملة ليس فيه إشعار بالزنى، ولا يقتضيه إلا ما يفهم من قوله: (أيقتله)، فإنَّه مشعر بالزنى، وإنَّما ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرًا ههنا؛ لأجل الاستدلال على جواز القضاء في المسجد، وهو جائز عند الإمام الأعظم وأكثر العلماء.

وقال أئمتنا الأعلام: المستحب أن يجلس القاضي مجلس الحكم في الجامع، فإن كان بجنب داره مسجد؛ فله ذلك، وإن قضى في داره؛ جاز، والجامع أرفق المواضع بالناس وأجدر حتى لا يخفى على أحد جلوسه، ولا يؤم حكمه، وقد كان الشعبي يقضي في الجامع، وشُريح يقضي في المسجد ويخطب بالسواد، وقد قضى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده بين الأنصار في مواريث تقادمت، وكانت الأئمة يقضون في المساجد، وقضى عثمان بن عفان بين سقاء وخصم له في المسجد.

وقال مالك: (جلوس القاضي في المسجد للحكم من الأمر القديم المعمول به).

وقال أشهب: (لا بأس للقاضي أن يقضي في المسجد).

وكان ابن أبي ليلى يقضي في المسجد.

قلت: وإنَّما جوزوا ذلك؛ لأنَّ الحكم على الخصمين عبادة، والمسجد بني؛ للعبادة، فحقه أن يحكم فيه.

وروي عن ابن المسيب: أنَّه كره القضاء في المسجد.

وعن عمر بن عبد العزيز: (لا يقعد القاضي في المسجد يدخل فيه المشركون، فإنَّهم نجس)، وتلا الآية.

وكان يحيى بن يعمر يقضي في الطريق، فقصد رجل إلى منزله، فقال: (القاضي لا يؤتى في منزله).

وقال الشافعي: (يكره قعود القاضي في المسجد للحكم إذا أعده لذلك دون ما إذا اتفقت له فيه حكومة).

قلت: والحديث حجة عليهم؛ لأنَّه عليه السَّلام قد قضى في حوادث متعددة في المسجد، وآية: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: ٢٨]؛ يعني: في الاعتقاد عند الجمهور، ولا مانع من دخولهم المساجد بدون إذن المسلم؛ لاحتمال إسلامهم، كما قالوا: إنَّهم يعلمون القرآن لئلَّا يهتدوا.

وحديث: «جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم» إن صحَّ؛ فمحمول على ما قبل الحكم؛ لأنَّه في الغالب يحصل بين الخصمين تشاجرٌ ورفع صوت، أمَّا عند الحكم؛ فلا يكون ذلك، كما لا يخفى؛ فإن الخصمين عند القاضي في مجلس الحكم يكونان في السكونة والوقار وغضِّ البصر.

فائدة: ابن أبي ليلى كان قاضي الكوفة، فجاء يومًا ليجلس مجلسه في المسجد للحكم، فسمع رجلًا عند باب المسجد يقول لرجل آخر: يا بن الزانيين، فقال: خذوه، فاضربوه حدين، فأخذوه، ودخلوا به المسجد، فضربوه حدين، فأخبر بذلك الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، فقال: يا للعجب من قاضي بلدنا! قد أخطأ في خمسة مواضع في مسألة واحدة:

أما الأول: فإنَّه قد أخذ القاذف من غير أن يخاصم المقذوف.

والثاني: أنَّه لو خاصم؛ يجب عليه حدٌّ واحد وإن قذف ألف رجل.

والثالث: أنَّه لو كان الواجب عنده حدَّين؛ ينبغي أن يتخلَّل بينهما بيوم أو أكثر حتى يَجِفَّ أثر الضرب الأول، وهو قد وَالَى بين الحدين.

الرابع: أنَّه قد حدَّ في المسجد، وقد قال عليه السَّلام: «جنِّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وسلَّ سيوفكم، وإقامة حدودكم».

الخامس: أنَّه قذف الوالدين، ولم يسل عنهما هل هما في حال الحياة أم لا؟ فإن كان في الحياة؛ فالخصومة إليهما، وإلا؛ فالخصومة إلى الابن، كذا ذكره أصحاب المناقب، وذكره غير واحد من أهل التاريخ، والحديث المذكور رواه البخاري في «تاريخه» وابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع؛ فانظر فقه الإمام الأعظم ما أصوبه، وما أدقَّ نظره! وحقيق بأن يلقب برئيس المجتهدين، ولقد عُرِض عليه القضاء مرَّات متعدِّدة، فأبى ولم يقبله من شدَّة ورعه وزهده وصلاحه رضي الله عنه، ونفعنا به في الدارين، وحشرنا في زمرته ومن خُدَّامه وأتباعه تحت لواء سيد العالمين، ورأس الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم.

(٤٥) [باب إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء أو حيث أمر ولا يتجسس]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا دخل) الرجل (بيتًا) لغيره بإذنه، وقوله: (يصلي)؛ أي: فيه، (حيث شاء)؛ كذا في رواية الأكثرين، وعليه؛ فهمزة الاستفهام مقدرة فيه تقديره: أيصلي؟ وفي رواية هكذا بهمزة الاستفهام؛ يعني: أيصلي في البيت حيث شاء؛ اكتفاءً بالإذن العام في الدخول؟ (أو) يصلي (حيث أمر)؛ أي: في المكان الذي أمره صاحب البيت؛ لأنَّه عليه السَّلام استأذنه في موضع


(١) في الأصل: (عويمر)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (فاسله)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>