للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والمناكحات؛ كالنكاح، والطلاق، والعدة، والإجارات، والمخاصمات، والدعاوى، وغيرها، فإنه لا يشترط في جميع ذلك النية، لكن إن نوى؛ يثاب على ذلك العمل، وإن لم ينو (١)؛ لا يثاب ومضى فعله على الصحة.

فنحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، ومؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة وذلك عبادة؛ برئت ذمته، وحصل له الثواب، ولا نزاع فيه، وإذا أدى من غير براءة الذمة؛ هل يقول أحد: إن ذمته لم تبرأ؟

(وقال) وفي رواية: (وقال الله تعالى)، وفي رواية: (عز وجل) (٢) : ({قُلْ كُلٌّ}) أي: كل أحد، ({يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: ٨٤])، قال الليث: (الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله)، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعمة، واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، ويدل عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: ٨٤]، وقال الزجاج ومجاهد: أي: مذهبه وطريقته، وفسره المؤلف بقوله: (على نيته) وهو مروي عن الحسن البصري، ومعاوية بن قرة المزني، وقتادة، فيما أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم.

(ونفقة الرجل على أهله)؛ زوجته، وأولاده، وكل من تلزمه النفقة عليه، (يحتسبها صدقة) حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى، فـ (يحتسبها) حال متوسطة بين المبتدأ والخبر، وفي رواية: بحذف الواو، وجملة (نفقة...) إلخ ساقطة في رواية.

(وقال النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) في حديث ابن عباس المروي عند المؤلف، ولفظه: «لا هجرة بعد الفتح» (ولكن) طلب الخير (جهاد ونية) «وإذا استُنفرتم؛ فانفروا»، أخرجه هنا معلقًا، وأخرجه مسندًا في (الحج)، و (الجهاد)، و (الجزية).

[حديث: الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى]

٥٤ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميمين واللام، (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا)، (مالك)؛ هو ابن أنس، (عن يحيى بن سعيد)؛ هو الأنصاري، (عن محمد بن إبراهيم)؛ هو ابن الحارث التيمي، (عن علقمة بن وقَّاص)؛ بتشديد القاف: الليثي، (عن عمر)؛ هو ابن الخطاب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال) الصادرة من المكلفين تكمُل ويثاب عليها، (بالنية) بالإفراد وحذف (إنما)، فإن لم ينو (٣) فيها؛ تكون غير كاملة ولا يثاب عليها؛ لأنَّ الكمال والثواب منوط بالنية، وتقدير الكمال والثواب هو المطَّرد، ولأنه متفق عليه، وهذه الصيغة لا تفيد الحصر؛ لأنها غير محصورة بـ (إنما)، على أن الصيغة المصدرة بـ (إنما) اختلف فيها هل تفيد الحصر أم لا؟ فهذه عدم إفادتها الحصر بالأَولى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: كاملة ومثاب عليها.

وما قيل: إن الأحسن تقدير صحيحة أو مجزئة؛ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه، ولو سُلِّم فيلزم منه نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو لا يجوز، فتقدير الكمال أحسن وأولى؛ فافهم.

(ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه إذا كان المحل قابلًا؛ كما تقدم، (فمن كانت هجرته)؛ بكسر الهاء: خروجه من أرض إلى أخرى (إلى الله ورسوله) نية وعقدًا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكمًا وشرعًا، وإنَّما أبرز الضمير؛ لقصد الاستلذاذ بذكره تعالى ورسوله عليه السلام، (ومن كانت هجرته لدنيا) وفي رواية: (إلى دنيا) (يصيبها) يحصِّلها (أو امرأة يتزوَّجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)؛ أي: إلى ما ذكر.

فإن قلت: قد استعمل (دنيا) بالتأنيث مع كونه منكَّرًا، وأجيب: بأن (دنيا) جعلت عن الوصفية غالبًا، وأجريت مجرى ما لم يكن قط وصفًا مما وزنه: (فُعْلى) كرجعى وبهمى، فلهذا ساغ فيها ذلك، ومراد المؤلف بهذا الحديث الرد على المرجئة؛ حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان دون عقد القلب، والجملة الأولى سقطت عند المؤلف من رواية الحميدي أول الكتاب، فذكر في كل باب ما يناسبه.

[حديث: إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة]

٥٥ - وبه قال: (حدثنا حجاج بن مِنهال)؛ بكسر الميم، وفي رواية: بالتصريف فيهما، وفي أخرى: بتنكير الأول وتعريف الثاني، أبو محمد الأَنْماطي؛ بفتح الهمزة وسكون النون، نسبة إلى الأنماط؛ ضرب من البسط، السُّلَمي؛ بضم المهملة وفتح اللام، المتوفى بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومئتين.

(قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (قال: أخبرني) بالإفراد (عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، المتوفى سنة ست عشرة ومئة، (قال: سمعت عبد الله بن يزيد) بن حصين الأنصاري الخَطْمي؛ بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة، المتوفى زمن ابن الزبير، (عن ابن مسعود) عقبة بن عمرو؛ بفتح العين وسكون الميم، ابن ثعلبة الأنصاري، الخزرجي، البدري، المتوفى بالكوفة قبل الأربعين، سنة إحدى وثلاثين، أو اثنين وأربعين.

(عن النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق الرجل) ومثله المرأة نفقة من دراهم أو غيرها، (على أهله)؛ زوجته، وولده، ومَن تجب نفقته عليه حال كون الرجل والمرأة (يحتسبها)؛ أي: يريد بها وجه الله (فهو)؛ أي: الإنفاق، وفي رواية: (فهي)؛ أي: النفقة، (له صدقة)؛ أي: كالصدقة في الثواب، لا حقيقة، وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع، وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز، أو المراد بها الثواب، كما علمت.

فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية، وأفاد أن الثواب في الإنفاق إنَّما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة أم مباحة، وأنَّ مَن لم يقصد القربة؛ لم يحصّل الثواب الكامل، وأنَّ براءة ذمته من النفقة الواجبة عليه، وحذف المعمول؛ ليفيد العموم؛ أي: أيَّ نفقة كانت كثيرة أم قليلة؛ كذا قرره في «عمدة القاري».

[حديث: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها]

٥٦ - وبه قال: (حدثنا الحَكَم)؛ بفتح الكاف، هو أبو اليمان، (ابن نافع قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي، (عن الزهري) أبي بكر محمد بن شهاب، (قال: حدثني) بالإفراد، (عامر بن سعْد)؛ بسكون العين، (عن سعد بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف: المدني أحد العشرة، (أنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) مخاطبًا لكلِّ مَن يصحُّ منه الإنفاق: (إنك) ظاهره الخطاب لسعد، (لن تنفق نفقة) قليلة أو كثيرة، (تبتغي)؛ أي: تطلب، (بها وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته بإخلاص وطيب نفس من غير رياء، ولا سمعة، ولا مَنٍّ، و (الباء) في (بها) للمقابلة، أو بمعنى (على)، ووقع في بعض النسخ: (عليها) بدل (بها)، أو للسببية؛ أي: لن تنفق نفقة تبتغي بسببها وجه الله تعالى (إلا) نفقة (أُجرت عليها)؛ بضمِّ الهمزة وكسر الجيم، وفي رواية: (إلَّا أجرت بها).

(حتى) ابتدائية (ما تجعل)؛ أي: الذي تجعله، مبتدأ، (في فم امرأتك) والخبر محذوف تقديره: فأنت مأجور فيه، وما ذكره ابن حجر: من أنَّ (حتى) هنا عاطفة، وما بعدها منصوب المحل، ردَّه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، وفي رواية: (في فِي امرأتك) وهي رواية الأكثرين؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني.

وقال القاضي عياض: حذف الميم هو الصواب، وبالميم لغة قليلة، والمستثنى محذوف؛ كما علمت؛ لأنَّ الفعل لا يقع مستثنى، والتقدير: لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا نفقة أُجرت عليها، ويكون (أُجرت عليها) صفة للمستثنى، والمعنى على هذا؛ لأنَّ النفقة التي يثاب عليها؛ التي تكون ابتغاء وجه الله تعالى، وإلَّا لا يثاب عليها الثواب الكامل.

والاستثناء متَّصل؛ لأنَّه من الجنس، والتنكير في (نفقة) في سياق النفي، فيعم القليل والكثير، والخطاب للعموم، كذا قرره في «عمدة القاري».

والمرائي بعمل الواجب غير مثاب وإن سقط عقابه بفعله، كذا قاله البرماوي كالكرماني، واعترضهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح؛ بل الصحيح التفصيل فيه؛ وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط؛ لأنَّه أتى بعين الواجب، ولكنه كان مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإخلاص وترك الرياء، فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص؛ لأنَّه مأمور به، وتارك المأمور به يعاقب.

قلت: وهو وجيه، وإنما خص المرأة بالذكر؛ لأنَّ عود منفعتها إلى المنفق الزوج، ومع ذلك فله الثواب، فغيرها يثاب عليه من باب أولى، هذا الحديث قطعة من حديث طويل، أخرجه المؤلف في (الجنائز) وغيرها، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

(٤٢) [باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين]

هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) مبتدأ، وخبر، ومضاف، (الدين النصيحة)؛ أي: عماد الدين أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، (لله) تعالى ظاهرًا وباطنًا، لا خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، و (اللام) في (لله) صلة؛ لأنَّ الفصيح أن يقال: نصح له، (و) النصيحة (لرسوله) عليه السلام بأن يصدِّق برسالته، ويؤمن بجميع ما جاء به، ويمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نَهى عنه.

(و) النصيحة (لأئمَّة المسلمين) بإعانتهم على الحقِّ وكفِّهم عن الباطل، وأمَّا أئمَّة الاجتهاد؛ فتقليدهم في الأحكام، وإظهار علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم، (و) نصيحة (عامتهم) بإرشادهم في آخرتهم ودنياهم، وكفَّ الأذى عنهم، وتعليم ما جهلوا فيه، وإنَّما ترك اللام فيه؛ لأنَّهم كالاتباع للأئمَّة لا استقلال لهم، وإعادة اللام تدل على الاستقلال.

وهذا الحديث وصله مسلم عن تميم الداري، وزاد فيه: (النصيحة لكتاب الله)، وذلك بتعلُّمِه وتعليمه، وإقامة حروفه، والإيمان بأنه كلام الله، وتنزيهه، والتصديق بما فيه، والتسليم لمشابهه، وإقامة حدوده.

وإنَّما لم يذكره المؤلف مسندًا وذكره ترجمة؛ لكونه ليس على شرطه؛ لأنَّ راويه تميم، وأشهر طرقه فيه سُهيل بن أبي صالح؛ وهو منسوب إلى النسيان وسوء الحفظ، والله أعلم.


(١) في الأصل: (ينوي).
(٢) في الأصل تأخر قوله: (وفي رواية عز وجل) عن قوله الآتي: ({قُلْ كُلٌّ}).
(٣) في الأصل: (ينوي).

<<  <   >  >>